[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
أما عن حالة الانقسام المجتمعي التي شاعت بين المصريين عقب سقوط محمد مرسي والإخوان على يد السيسي فقد خفتت حدتها إلى حد بعيد، وتحول الخلاف إلى نقاشات ساخرة وقفشات مضحكة وتهكم من الفريقين, وتغلبت صلات الدم وروابط القربى وعلاقات الجيرة والصداقة على الخلافات السياسية, ووصل كثيرون لقناعة مفادها أن مصلحة الوطن تسمو فوق أي خلاف سياسي أو انتماء حزبي أو عقائدي..

عائد لتوي من زيارة طويلة لأرض الوطن حرصت خلالها على التقاط مشاهد قريبة للبشر والحجر, حاولت رصد التغيرات الاجتماعية والديموجرافية التي حلت بمصر بعد ثلاثة أعوام من الثورة على مبارك وعام من ترك الإخوان للحكم وشهرين على وصول السيسي للرئاسة. وبالفعل هناك ظواهر مستجدة لا تخطئها العين طرأت على سلوكيات المواطن المصري؛ فلم يعد مستكينًا ولا مغلوبًا على أمره, حتى الشحاذ/"الشحات" الذي يقف في الشارع يطلب الصدقة بعنف وكأنها حق مكتسب؛ ولا يتورع عن توجيه اللوم والسباب لمن يصده أو ينهره أو يحاول منعه من ممارسة حقه في التسول ولا يتردد عن إلقاء العملة التي لا تروق له في وجه الزبون.
وخلال وجودي في القاهرة لم أصادف أي مشاكل أو خروقات أمنية، فالطرق تغص بالمركبات من كل نوع والدراجات النارية والهوائية وعربات الكارو, والتوك توك والمشاة ـ كل في فلك يسبحون ـ دون تدخل يذكر من رجال المرور سواء بالمنع أو التنظيم, اللهم بعض حوادث السير البسيطة التي سرعان ما تنتهي بعد مشادة كلامية نادرا ما تصل إلى استعمال الأيدي أو السلاح؛ إذ يهب الجميع لفض الاشتباك بين المتعاركين وإقناع الضحية بتفويض أمره لله والعفو عن الجاني؛ يحدث ذلك في وجود قوات الأمن أو غيابها، فالأمر سواء.
فمهمة قوات الشرطة الأساسية أصبحت منع التظاهر ومطاردة الإرهابيين والقبض على الإخوان, أما ما خلا ذلك فلا شيء يهم, فسرقات الشقق والمنازل تحدث في الأحياء الجديدة والراقية خلال فترة الإجازات والذهاب للمصايف, وعندما يذهب المواطن المسروق لقسم الشرطة لتحرير محضر بالسرقة ويطلب معاينة الشقة وحصر المسروقات، لا يجد حماسًا من رجال الأمن الموجودين في القسم، ويخبرونه بأنهم مشغولون يوم الجمعة بمظاهرات الإخوان, ويوم السبت بمحاكمة مرسي وقيادات الجماعة, ويوم الأحد بمحاكمة مبارك وحبيب العادلي وعلاء وجمال، ووسط الأسبوع مخصص للحملات على الباعة الجائلين ورفع الإشغالات، وعلى المواطن المسروق الصبر والاحتساب وتركيب بوابة حديد أو استبدال الباب الخشبي بآخر مصفح حتى لا تتكرر السرقة.
وربما هناك تحسن ملحوظ في الأداء الأمني مقارنة بـ2012م و2013م وهناك تواجد شرطي ملحوظ في شوارع العاصمة وعلى الطرق السريعة, ولكن الأداء باهت والإيجابية مفقودة والتراخي هو سيد الموقف خصوصًا من أمناء الشرطة الذين يمثلون عصب وزارة الداخلية، وكانوا طرفًا فاعلًا في منظومة الأمن الفاسدة التي أرسى دعائمها حبيب العادلي وزير داخلية مبارك وكانت السبب الرئيسي في قيام ثورة الـ25من يناير, وما زال بعض رجال الشرطة في إدارات الجوازات والهجرة والمرور يمارسون نفس السلوكيات القديمة ولم تمتد أيدي الإصلاح أو التطهير إليهم رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على قيام الثورة.
ويبدو أن الشعب المصري ليس أصيلًا في العنف أو الخروج على السلطة ومهما تمرد أو خرج على القانون بسبب الانفلات الأمني وتراخي قبضة الدولة، إلَّا أنه سرعان ما يعود لرشده مع شعوره بعودة الدولة ووجود سلطة حقيقية تمسك بمقاليد الأمور, فمع تولي السيسي السلطة وشعور المصريين بجديته وإصراره على إنفاذ القانون؛ تراجعت التعديات على أملاك الدولة وتباطأ البناء على الأرض الزراعية إلى حد كبير, وانصاع الباعة الجائلون لأوامر الحكومة, وأخلوا منطقة وسط البلد طواعية وتوجهوا للأماكن التي خصصتها لهم المحافظة لعرض بضاعتهم رغم بعدها عن الزبائن, بعدما أحسوا بالجدية من قبل السلطات على نقلهم.
أما عن حالة الانقسام المجتمعي التي شاعت بين المصريين عقب سقوط محمد مرسي والإخوان على يد السيسي فقد خفتت حدتها إلى حد بعيد، وتحول الخلاف إلى نقاشات ساخرة وقفشات مضحكة وتهكم من الفريقين, وتغلبت صلات الدم وروابط القربى وعلاقات الجيرة والصداقة على الخلافات السياسية, ووصل كثيرون لقناعة مفادها أن مصلحة الوطن تسمو فوق أي خلاف سياسي أو انتماء حزبي أو عقائدي, وأنهم وإن كانوا يتعاطفون مع مرسي والإخوان ويعترضون على الطريقة التي أزيح بها عن الحكم, وبعضهم محبط من التجربة الديمقراطية الوليدة التي أجهضت قبل اكتمالها. ورغم ذلك يؤكدون أنهم لن يقفوا في طريق السيسي إذا كان جادًّا في النهوض بالبلاد وقادرًا على إقالتها من عثرتها وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوعها والسير بالوطن إلى بر الأمان.
الشيء المقلق في الوقع الديموجرافي المصري؛ هو هذا التفاوت الطبقي الرهيب بين الأغنياء الذين يمثلون 5% من السكان ويسيطرون على 80% من ثروات البلد والفقراء الذين يمثلون 95% من السكان بدرجاتهم ومواقعهم المتعددة قربًا وبعدًا وجلوسًا على خط الفقر ـ بداية ممن يكسب 10 دولارات يوميا وانتهاء بمن يقل دخله عن دولارين, أما عن الطبقة الوسطى فقد تآكلت وأصبحت في حيرة من أمرها بعد أن زحفت العشوائيات والفوضى إلى أحيائها وأصبحت ناقمة ورافضة الاستمرار في مناطقها القديمة, وفي نفس الوقت عاجزة عن الانتقال إلى الأحياء الجديدة لغلو ثمنها (ثمن الشقة المتوسطة في القاهرة الجديدة أو الرحاب يصل لـ200 ألف دولار)، وهو يفوق قدرة أصحاب المهن من الأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين الذين يتطلعون للانتقال للعيش في هذه المناطق الراقية.
أزمة انقطاع الكهرباء كان لها النصيب الأكبر من اهتمام المصريين وتحولت لهاجس يومي يؤرق حياة الجميع؛ فالأزمة لم يقتصر تأثيرها على الاستعمال المنزلي, بل تعدت لتهدد حياة المرضى المنومين في المستشفيات, وأثرت على المصانع, والأرزاق, وتحزن عندما تجد العمال يقفون على أبواب المخابز, والمطاعم, والمتاجر, والمقاهي ليلًا وسط الظلام, ينفثون دخان السجائر, ضجرًا وتبرمًا من وقف الحال بسبب انقطاع الكهرباء التي حار المصريون في معرفة أسبابه منذ سقوط مبارك حتى الآن, واتضح براءة مرسي والإخوان و"عامل السكينة" الذي اتهمه مرسي بتعمد قطع الكهرباء مقابل 20 جنيها لحساب الدولة العميقة, فقد خرج السيسي مؤخرًا ليعترف بأن السبب الحقيقي هو سوء حالة المرفق ومحطاته التي أهملت صيانتها وتعرضت للإهمال وسوء الإدارة على مدار 30 سنة حتى أصبحت عاجزة عن الوفاء بالاحتياجات المتزايدة من الطاقة لهذا البلد الكبير.
الشيء الواضح الذي نجح السيسي في إعادته للشعب المصري هو الأمل, والثقة في المستقبل, فقد قررت استعمال التوك توك قبل عودتي بيوم كنوع من الزهد والتطهر, ودار بيني وبين سائق التوك توك الشاب حوار سألني خلاله عن كيفية الحصول على شهادات استثمار قناة السويس, ومقدار الفائدة وطريقة تحصيلها, فسألته: هل تنوي شراء الشهادات؟ فأجابني بأنه يمتلك مبلغًا من المال ويرغب في استثماره في مشروع القناة لأنه اقتنع بما قاله السيسي عن المشروع ومتأكد من أنه سيجلب الخير لمصر, فضلًا عن العائد المرتفع (12% من أصل المبلغ), وأكد أنه رغم المعاناة التي يعيشها مع التوك توك, من زحمة وطرق وعرة وعراك مع الركاب ومطاردة من البلدية والشرطة إلاّ أنه متفائل بالمستقبل, ومقتنع بأداء السيسي ويثق بأنه قادر على تحسين الأحوال, ويحلم بأن يمتلك سيارة نصف نقل أو (ميكروباص) يساعده على توفير تكاليف الزواج, وأنه لا يفكر في الهجرة أو السفر خارج مصر؛ هذه الكلمات البسيطة تدل على تغير ولو بسيطًا في مزاج الشباب المصري, ربما لا تمثل رأي الأغلبية, ولكنها تعطي مؤشرًا أن هناك طاقة نور في آخر النفق.