المبدعون يجلسون على "شرفته" و"حبيب" يسرد تفاصيله الإنسانية و"اللويهي" يقرأه

* عبدالله حبيب : لم تتدرج الثقة بيني وبين سماء عيسى ولكنها تسللت مطلقة منذ اللقاء الأول

* عوض اللويهي : منذ البداية سماء عيسى وسّع الدلالة في ثلاثية العشق والموت والحياة
كتب ـ فيصل بن سعيد العلوي :
في ليلة استثنائية حضرها نخبة من الكتّاب والأدباء في السلطنة وعدد كبير من المهتمين احتفت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالمجموعة السردية للأديب الشاعر سماء عيسى والتي تحمل عنوان "شرفة على أرواح أمهاتنا" والتي تتضمن أحد عشر نصا سرديا تحتفي بالأم والأرض وذاكرة حيّة تفتح مساحات كثيرة لحكايات وقصص عن الأمهات ، ويفتح سماء عيسى شرفات نصوصه على كل طرق ذاكرة طفولته وحكايات أمهات كثيرات في كتاب لا يتجاوز عدد صفحاته الستين صفحة، إلا أنها رحلة مليئة بجدارة العيش رغم كل ذاكرة الدم والغزاة، كسرد مبلل بالوطن، تتصدر غلافه احدى لوحات فرانسيسكو دي غويا بجسد امرأة عزلاء تتلقى، وأناس عزّل، رصاصات الجنود.
ادار"الأمسية القاص سليمان المعمري بحضور الأديب سماء عيسى والكاتب عوض اللويهي الذي قدم قراءة في المجموعة التي صدرت منذ أشهر عن دار مسعى البحريني ، فيما تواجد الشاعر عبدالله حبيب ليقدم شهادة إنسانية عن سماء عيسى رفيق دربه.
واستفتح الشاعر والكاتب سماء عيسى الأمسية التي أقيمت في قاعة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بقراءة عدد من نصوصه ، ومن نصوص المجموعة يقول سماء عيسى في نص أول: "الأرض لا تنبت إلا هذا الضياع الدائم، وهذا الأفول الذي يعتري قلوبنا وأرواحنا منذ ولادتنا ويتربص بنا كنمر جاثم في الطريق. القناديل الصغيرة أطفأتها رياح الليل ولم نعد نرى ماذا بقي أمامنا في الطريق؟".
وفي نص آخر يقول سماء عيسى : "غبت وحيداً وتهت في صحراء، لا أذكر منها إلا يوماً ممطراً، كنت فيه وحيداً فلذت بالخوف من السماء، نحو كوخ بعيد يضمني مع النار التي تدفئ ضلوعي. ستزورني هناك تلك الغنمة الوحيدة الهاربة من احتفالات الأعياد القبيحة، وتبقى وحيدةً تنظر في هدوء الى المطر، يبلل التربة وأعشابها الجافة، فتنمو الأعشاب المغطاة بقطرات المطر، كدمع الأطفال على وجناتهم البريئة، وكدمع الأمهات وقد شاخت وجناتهن من الحب والفراق والهجر، وقد اقتربن من الموت".
رؤية إنسانية
بعدها تحدث الشاعر والكاتب عبدالله حبيب ليقدم رؤيته الإنسانية في سماء عيسى الذي رافقه في مراحل متقدمة من الكتابة ، مشيرا إلى ان الثقة لم تتدرج في العلاقة بينهما بل انها اكتسبت الثقة المطلقة منذ البداية ، وهذا ما أصل العلاقة لتمتد حتى اللحظة بصورة إنسانية راقية تحمل في ذاتها معان الإخلاص والإبداع والرقي في مختلف مجالات الحياة الإنسانية والأدبية.
بعدها قدم الكاتب عوض اللويهي قراءة في مجموعة "شرفة على أرواح أمهاتنا" تحدث فيها عن العنوان كمدخل لفهم فضاءات النصوص في إطارها العام ومحاولة فهم العلاقة بين الجذر اللغوية (شرف) وتحولاته الدلالية في نصوص الكتاب ، كما تحدث ايضا عن تشكل عناوين النصوص مدخلا آخر لفهم فضاءات الموت والعشق والحياة. ، وعن التأمل المؤنث في النظر إلى الفقد والغياب.والحزن والبكاء. وتتبع صور هذا التأمل في الكتاب.
ويقول "اللويهي" في بداية قراءته : "يضعنا النوان بداية امام جملة من المفاتيح التي نحتاج إلى وعي بها اولا ، ومسلاءلة لها ثانيا لنتمكن من الولوج إلى العوالم السردية التي تتأسس من الغلاف الى الغلاف ، فالشرفة تعود إلى الجذر اللغوي (شرف) الذي يعني العلو فأشرف الشي أو على الشيء علا عليه وارتفع ، ويقول ابن منظور "والشرف والمجد لا يكونان الا بالأباء ،فسما عيسى هذا يقلب المعنى حيث انه لا يذهب الى المعنى القديم للشرف والتفاخر والذي يمجد كل ما يديم هذا الشرف ما دام ذلك يبقي المرء حيا ومتصل الجذور بالاسباب التي تمنحه او تديم له الشرف . سماء هنا يوسع هذه الدلالة من منظور آخر وهو فعل التبصر في عناصر ثلاثة هي العشق والموت والحياة . كما انه الجذر يشير الى ان لفظة (الأشراف) هي اعلى الانسان وأشراف الانسان أذناه وانفه ، ولا نكاد نبتعد قليلا عن استخدام اشرف على الموت حين يدنو الإنسان منه ".
ويضيف الكاتب عوض اللويهي حول "معاني الشرفة" : الشرفة في العنوان مفرد مؤنث في مقابل مجموع "ارواح" و"امهاتنا" التي تحمل دلالة الجمع بطبيعة الحال ولكنها تحمل النسبة "النون" التي تحيل إلى الجماعة دون تمييز بين مذكر ومؤنت ، ويحيل العنوان إلى الجذر العميق الذي ينطلق منه العنوان وهو الانثى.إن لفظة الشرفة دارجة في لهجتنا العمانية فسكان الجبال مثلا يطلقوت على المكان المطل على نهاية الجبل المطلة على هوة او منخفض عميق شرفة ، وكثيرا ما كنا نسمع لا تشرف براس خصوصا عندما نكون في السطح او نقف على حافة البئر. تشكل الشرفة المكان البارز في واجهة البيت او المكان المطل الى الخارج ، فلا غرابة ان يأتي النص الذي يحمل عنوان الكتاب في المقدمة مكرسا مستثمرا بذلك القيمة البصرية والدلالية لمعنى الشرفة وفضاءاتها. وينفتح هذا العمل على اكثر من احتمال لمعنى الشرفة فقد يكون نقاب المرأة في نص النقاب شرفة لها نفس الإحالة الدلالية للشرفة ـ والشباك الذي انزرعت خلفه الأم التي تنتظر ابن المناضل ظلت ثلاثين عاما تنتظر هناك " كانت تجلس ساعات طويلة أمام شباك المنزل تنتظر طويلا" ، فهذا الشباك لا يفتح عيني الأم على اتساعها تلفا وانتظارا للابن المنتظر بل ان هذا الفعل بذاته شكل شرفة للسلطة" ، لكن السلطة التي كانت تراقب المشهد صامتة ، كانت قد دفنت الجثة في مكان مجهول" ، فالطلل المتداعي يكمن ان يكون شرفة للنظر :" ابتعدت عنها ، وخلف طل متداع عند النبع اختبأت ، أراقب رحيلها إلى القبر البعيد بين الجبال، بعد ان ملئت الجرة بالماء" ، النجم في السماء يطل من شرفة علوية يرقب في صمت جثة القتيل المربوطة على راحلة" ولم يفش الملك سره لأحد، سوى نجم في السماء، كان يتبع الراحلة أينما تمضي وتسير" هل أفشى الملك السر فعلا أم أن النجم في موقع يخوله أن يرقب ويشاهد الأشياء بوضوح تام؟ فإن كان البدائي قد اخترع الجرار حتى يحفظ فيها عظام اسلافه حتى لا تعود إلى الأرض وكي تبقى أرواحهم في تيه وهيام دائم في الفضاء ، فسماء عيسى يخترع الشرفة التي تبحث عن هذه الأرواح لتوثق لحظات تيهها وهيامها على هذه الأرض فإن كانت الأرواح المستتبعتة هائمة وحرة فلا بد من شرفة حرة أيضا ، فلا يستقيم جمود الرائي وتحرك المرئي او المتأمل. ما يقلب تصورنا عن الشرفة هنا هو نص الراعية التي أنجبت عصفورا حيث يشكل فمها المفتوح أثناء رعيها شرفة لعصفور تائه ليطل على دواخل المرأة وتحبل به. هذا العصفور الذي يفتح للمرأة شرفة أخرى في التفكير في معنى العشق وان تجرب معنى الأمومة.

صورة الأمومة

وحول "صورة الأمومة" يتحدث "اللويهي" : تتعدد الأمهات في النص فلا نكاد نقف عند أم واحدة فالعمة أم والخالة أم والجدة أم ، ولا تقتصر الأمومة على البشر ، بل نجد ان النص يؤنسن حالة الأمومة التي عند الحيوانات مثلا فنجد النعام ، بل ان فعل الأمومة يتعدى من الكائن البشري الى الحيوان حين تصبح شاة "أسمى" كواحدة من الأسرة بفعل الخالة التي تعتني بها في القرية. الجرة في شكلها الخارجي ووظيفتها في حفظ العظام أشبه ما تكون بالرحم او المكان المؤتمن على الاسرار ، في نص الراعية التي انجبت عصفورا نجد الراعية التي دخل العصفور الى احشائها ثم انجبته ، كما ان شجرة النارنج كانت اما حانية على الطيور التي كانت تأوي إليها.
اما عن ثيمة "الفقد بين القرية والمدينة" فيقول الكاتب عوض اللويهي في قراته :" تبدو صورة الفقد في المدينة أشد وحشة وألما فالمرأة القادمة إلى مسقط "كانت قد سكنت مسقط قادمة من نزوى، كذلك زوجها الفقيه الذي تمتد جذوره إلى هنام ايضا ، إلى حلة العقر تحديدا ، هناك حيث يختبيء الحلم ، ومن تلك الازقة المظلمة الحزينة يظهر جمال الأشياء وتبزغ طفولة الأرض . كان من المحال ان يعودا ، لقد اتبطت سبل العيش لديهما بمسقط وما كان عليهما الا ان يتقبلا قضاء الله وقدره ، ويصمتا في نوات الشيخوخة انتظارا للموت" ؟
فمسقط لا توفر لابنهما الشهيد الأول مكان واضحا لقبره لذا بقي مجهولا بالنسبة لهما ، هذا في الواقع بينما في متخيل الأم ان ابنها مختبئ في كهف وسيظهر وبرغم علم الجميع باستشهاد ابنها الا انهم اثروا ان يبقوها في حلمها ذاك داخل ذلك الكهف الندي بالانتظار ، وفي نهاية المقطع ( 5 ) نقرأ السارد يقول " لم يكن عمري غير الجفاف ، ولم يعد ما بقي غير الجفاف. انا الراحل كدمعة عطشى تفشى بها وباء غامض غريب. لم يبق بها سوى الموتى، هناك يدفنون الموتى" الفناة الصغيرة المقطع (4) لا يعطينا مكان الحدث ولكن رغبة المرأة بالرجوع إلى القرية يشير صراحة إلى مكان الموت كان في المدينة.

دلالات الموت

وحول "صور ودلالات الموت" يقول اللويهي : "الدمع الذي تكتنز به العين حزنا وكمدا في النهاية هو نوع من أنواع الموت وأعوانه،الحزن المقترن بالزراعة والفلاحة والقربة الحزن الذي هو في وجه من وجوه عشق الأرض والموت لأجلها الحزن لا يمكن إلا الموت أو حادث الموت ( موت الأبنة في حادث سير) ليخرجه ويمنح المرأة مبرر العودة إلى القرية حيث النشأة الأولى.
الموت الذي كانت تنتظره المرأة وتعد له العدة في المقطع( 4 ) يأتيها أخيرا ولكن ليس ليأخذها هي بل ابنتها الصغيرة. الأمل الذي أنتظره الكاتب الي كتب عن الحب والثورة والغياب في نص القتيل هذا الأمل اتاه مخادعا متمثلا في طعنة سكين لم يكن شاهدا عليها غير القط.
في نص الراعية التي أنجبت عصفورا يحضر الموت في معنى تحول رغبة المرأة من منح جسده لزوجها الغبي إلى أن تمنحه لعصفور جميل. هذا التصور يمنحها موتا رمزيا لصورة وجسد زوجها ،حيث تنفتح روحها على أفق أخر للجمال ومعنى مختلف للجسد. موت شجرة النارنج في بهو البيت وهرب العصافير موت لذكريات ساكني البيت وبقاء الدمعة مورقة دائما في المأقي. صورة من صور الموت أيضا التيه في الصحراء صورة من صور الموت تقابلها صورة العاشق المجنون" التائه في الصحراء كالعاشق لايصل إلى قرار أو مسكن تقر به عيناه إلا ميتا" . عدم العشق مواز لاستمرار الحياة فمن لا يعشق لا يجن ولا من يجن يتيه في الصحراء حيث يكون الموت مصيرة.

نقاش الإبداع

وفي الختام فتح باب النقاش بين النخبة من الكتاب والأدباء والمهتمين الحضور ، وبين الكاتب سماء عيسى والكتاب عبدالله حبيب وعوض اللويهي للتعرف بشكل اكبر عن التجربة الثرية للكاتب سماء عيسى و لتبادل وجهات النظر حول المجموعة وفهم بعض النقاط التي تستشكل على بعض القراء. يشار الى أن "شرفة على أرواح أمهاتنا" هو الكتاب السردي الثالث لسماء عيسى بعد كتابيه "أبواب أغلقتها الريح"، و"الجلاد" ، ولسماء عيسى أيضا عدد من المجموعات الشعرية منها "ماء لجسد الخرافة" و"نذير بفجيعة ما"، و"مناحة على أرواح عابدات الفرفارة" و"منفى سلالات الليل"، و"دم العاشق"، و"درب التبانة" و"غيوم" و"لقد نظرتك هالة من نور"، و"أغنية حب الى ليلى فخرو" ، و"الجبل البعيد".