ميساء الريامية:

يُعد فن العمارة من أقدم الفنون والعلوم المعمارية الهندسية التي عرفها الانسان حين ابتدأ في التفكير لبناء مأوى له منذ أن تلمس حاجته لتسخير جميع إمكانات البيئة، وقد مر تاريخ العمارة بكثير من الاحتمالات والمحددات التي تحده كمنهج للدراسة والمقارنة ولذلك فقد نشأت وجهات نظر كثيرة لدراسة العمارة عبر تاريخها، ومعظم الدراسات التي أجريت حولها تناولت الحديث عن أهمية العمارة والمقارنة بين أنواع العمارات المختلفة وأصبح للعمارة مكانة بارزة بين العلوم المختلفة، ولذلك نجد أن التاريخ المعماري يعتبر جزءا من تاريخ الفن الذي يهتم بدراسة التطور التاريخي الخاص بتصميم وتشييد المباني وتخطيط المدن، انطلاقا من القول بأن مفهوم فن العمارة يستند بصورة تطبيقية على مجموعة من التصاميم الهندسية التي تعتمد على الرسم والتخطيط، فالاهتمام بالبيئة المحيطة قديم قدم الإنسان نفسه كما أن علاقة الإنسان بالبيئة تأتي في مراتب الضروريات والحاجيات والتحسينات التي حتمت عليه بناؤها وتعميرها، ومن هنا استطاع الإنسان العماني منذ العصور القديمة أن يُشيّد نوعا بدائياًّ من العمارة بعد أن سخر وقته من أجل البحث عن الأساليب الإنشائية التي تعتمد على الاستفادة من إمكانات البيئة بأنواعها المختلفة ابتدأها باستخدام خامات ووسائط تشكليه بيئية متواضعة صاغها بفكر وفلسفة فنان لتظهر بصورة جمالية بعد أن ترجمها في هيئة كتلة قائمة في فراغ داخلي هو التصميم الداخلي للمبنى المعماري الذي أنشأه، وفراغ خارجي وهي البيئة التي تحيط بالمبنى وبذلك غطى الانسان احتياجاته المادية والمعنوية باستخدام مواد وأساليب إنشائية مختلفة.
إن تفرد البيئة العمانية قديما وحديثا عن غيرها ساهم إسهاما فعالاً في التطور العمراني في “سلطنة عمان” حيث بلغت عمارة البيوت درجة من الرقي والتطور العمراني أصبحت المدن العمانية لها مكانة بارزة في مصاف المدن العالمية، وقد أسهمت مستجدات الأحداث السياسية والحضارية والتقنية والعلمية عبر التاريخ في تطوّر العمارة لعلاقتها المباشرة بالعلوم الأخرى، حيث استفادت من التطور التقني في توظيف برامج التصميم المختلفة. ومن خلال دراستي الأكاديمية شرعت في البحث عن موضوع (عمارة البيوت العمانية القديمة وأثر البيئة على تعددها) والتي تُعد من المواضيع ذات الأهمية من الناحية الفنية والتصميمية باعتبار أن البناء المعماري الذي شيده العماني منذ القديم من الأهمية بمكان الحديث عنه والتعريف به في الوقت الذي لم يكن للتكنولوجيا مكانا بين العلوم المختلفة إذ لم يعرف الإنسان العماني في ذلك الوقت إلا البيئة التي سخرت له جميع إمكاناتها المختلفة من أجل أن يبني بيته، فالأبحاث العلمية التي تناولت أثر البيئة على التنوع المعماري أكدت على أهمية تحويل المعطيات من المعلومات والمعارف الأساسية حول البيئة وأثرها على التنوع المعماري (إنشاءً وتصميما) وهو ما يتناوله البحث الحالي.
أولا: أثر البيئة على تعدد
عمارة البيوت العمانية القديمة:
عرف المعماري العماني منذ القديم أنواعا مختلفة من مواد البناء اختلفت من منطقة لأخرى ومن بيئة لأخرى تبعا لجيولوجية المنطقة استخدمها في عمارة مسكنه، ويؤدي المناخ دورا مهما فطبيعته تفرض استخدام أنواع محددة من المواد تتناسب مع العوامل المناخية للمنطقة، ففي المناطق كثيرة الأمطار يستخدم الحجر بدل الطين لأنه أقل تأثرا بالماء وعوامل الحرارة والرطوبة.
شيد المعماري العماني في البيئة الجبلية بيته قديما من جدران سميكة من الحجارة المغطاة بالطين وتؤدي سماكتها دور عازل حراري فعال ضد الظروف المناخية.
أما في مناطق البيئة الصحراوية وبسبب قلة الصخور استخدم (البوص) وقد أكدت المصادر أن الموارد المستخدمة في عمارة بلاد الرافدين هي أصلها مستوردة من مجان حيث تؤكد على التبادل التجاري بتصدير كل من القصب (البوص) إلى بلاد الرافدين بهدف تشييد المعابد، حيث يمتاز البوص المصدر من النوع (السميك) وقد اكدت تلك المصادر من قصيدة رثائية سومرية توضح ما كانت تمتاز به مجان من القصب (البوص).
ومن المواد التي تم تصديرها أيضا من “مجان” إلى “بلاد الرافدين” حجر (الديوريت) الذي يمتاز بالصلابة وذلك لحاجة بلاد ما بين النهرين للحجارة الصلبة بسبب افتقارها إلى هذا النوع من الحجارة، حيث استخدم شعب بلاد الرافدين حجر (الديوريت) بغرض الكتابة عليه ونحت التماثيل منه، وتمتاز حجارة عمان بصلابتها الشديدة وعدم تكسرها ومقاومتها للظروف الجوية والمناخية، إذ الشواهد في الحجارة بعد الكتابة المسمارية التي عثر عليها في بلاد الرافدين تؤكد على أن السفت العمانية تحمل هذه الحجارة بطلب من تجار المدن السومرية منذ زمن الملك (سرجون الأكادي).
يتوافر بين يديه من مواد بناء ففي بلاد الرافدين العمارة طينية والأحجار، أما في وادي النيل فإن العمارة معظمها مبنية بالحجارة.
ثانيا: تكوين وتصميم
البيوت العمانية القديمة:
يتكون البناء الشكلي للبيت بهيئة هندسية (مستطيلة-مربعة) شبيه ببرج القلعة تتوزع على مساحته مجموعة من المستطيلات متباينة الاحجام تبرز للخارج وكأنها مندفعة الى الامام نحو المشاهد وقد كانت السيادة في تكوين هذا البناء المعماري العماني القديم استخدم الشكل الهندسي والاختزال لإنتاج هذا التكوين الشكلي المعماري، فتصميم النوافذ الهندسية هنا قد اختلفت في قياساتها فهي تتسع في جوانب وتنحسر في جوانب اخرى فهذه التحولات الشكلية يوحي بالاندفاع للخارج، فهذا التفاوت ما بين الاحجام تحرك التصميم العام للبيت فيبدو الشكل أكثر انسجاما، فالسيادة في تكوين هذا البيت للشكل الهندسي. فالأشكال الهندسية المتجاورة والمتكررة حققت الوحدة كونها مرتبطة بتناغم وبانسجام شكلي في توازن داخل فضاء البناء المعماري، وقد استخدم المعماري العماني بالرغم من بساطة الإمكانات والأدوات تقنيات متواضعة والتي اصبحت في الوقت ذلك لغة العصر التي تؤكد على مبدأ البساطة في التصميم.
ثالثا: البيوت العمانية
في البيئة الصحراوية (بيت جزيرة محوت):
يُعد (بيت جزيرة محوت) في محافظة “الوسطى” في “سلطنة عمان” نموذج من نماذج عمارة البيوت العمانية القديمة الصحراوية والذي يتميز بجدران مبنية من أغصان الأشجار، فقد وُفق المهندس المعماري في تشييد جدرانه بنوعين من الخشب الثقيل شديد الصلابة (خشب السمر وخشب اغصان المنجروف) حيث تمتاز تلك الأخشاب بالصلابة والعزل الحراري، أما تصميم البيت فيأخذ هيئة الشكل المربع، ويعود صمود بيت جزيرة محوت إلى براعة المعماري العماني في اختيار أقوى أنواع الخشب التي تناسب مع البيئة الصحراوية.
ويمتاز سقف (بيت جزيرة محوت) بتغطيته بعيدان خشب (السمر) التي برع العماني في تسقيفه مُتبعا الأسلوب المعماري القائم على رص أعمدة خشب (السمر) بطريقة عمودية متعرجة على هيئة مثلث ينسجم مع التصميم الهندسي للبيت، أما باب (بيت جزيرة محوت) فيتمثل في فتحة مجوفة تأخذ الشكل الهندسي البسيط بهيئة مستطيل تغطيها قطعة من جلد الأغنام.

✽ باحثة عمانية