مـن ينـابيع القـرآن

الحمد لله والصلاة والسـلام عـلى رسـول الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وبـعـد:
فـيقـول الله تعالى في كـتابه العـزيـز:{إن هـذا القـرآن يهـدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الـذين يـعـمـلـون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يـؤمـنـون بالآخـرة أعــتـدنا لهـم عـذابا ألـيما} (الإسـراء 9 ـ10).
ولـقـد ثـبـت أن أرواح الـمـؤمنـين ولا سـيـما أرواح الـشـهـداء تـنعـم في الـبـرزخ، لأن الأرواح لا تـفـنى وإنما الأجـساد هـي التي تـفـنى قال الله تعالى:{كـلا إن كـتاب الأبـرار لـفي عـليين، وما أدراك ما عـلـيـون كـتاب مـرقـوم يشـهـده المـقـربـون } (المطففين 18/21).
فـسر كـتاب الأبـرار بأرواح الأبـرار مـن لـدن أبـيـنـا آدم عـلـيـه السلام إلى أن تـقـوم السـاعـة تـتـنعـم، وأرواح الـكـفـرة تتـعـذب، ولا مانـع مـن أن تـكـون جـميـع أرواح المـؤمنين تـتـنـعـم ولا سـيما أرواح الـشـهـداء، ولأرواح الشـهـداء فـضـل ومـكانة، ونسـمة المؤمـن طـائـر يـرعى في الجـنة، والجـنة عـنـد سـدرة المنتهى.
قال الله تعالى:{إذ يغـشى السـدرة ما يغـشى} (النجـم ـ 16)، إنه أمر فـيه هـول وتعـظـيـم وغـشـيان، والغـشـيان يسـتعـمـل في مـعـنـيـين، المجيء والتغـطـية، تقـول غـشيني فـلان ، يعـني جـاء ودخـل عـن غـير سـابـق عـلـم، ونـقـول: غـشي بمعـني غـطى ، ومـنه قـوله تعالى:{واللـيـل إذا يـغـشى} (اللـيـل ـ 1).
وصـف الله تعالى حـالة السـدرة في الـوقــت الـذي رأى فـيه النـبي صلى الله عـلـيه وسـلم جـبريـل عـلـيه السلام عـلى صـورته الحـقـيقـية بأنه غـشـي الســدرة ما غـشـيها، قال بـعـض : لـقـد غـشيـها نـور، وقال بـعـض غـشـيها أفـواج مـن المـلائـكة كـغـربان تطـوف عـلـيـها، ولـكـنـنا لا نعـلم الحـقـيـقـة وإنما الإبهام في الـوصف يـدل عـلى الـتـعـظـيـم، كـما جـاء في قـوله تعالى واصـفا ما أصاب قـوم فـرعـون :{فـغـشيهـم مـن الـيـم ما غـشيهـم} (طـه ـ 78).
قال الله تعالى:{ما زاغ البصـر وما طـغى} (النجـم ـ 17)، مـن المعـلـوم أن العـين قـد يـزيـغ بصرها، فـلا تـرى الأشـياء عـلى حـقـيـقـتها بسـبـب مـرض يصيـبها، كـما يصاب الـذي تـشـتـد به الحـمى، إذ تـراه يـهـذي بأشـياء يـراها وعـيـنه مفـتـوحة ، ولـكـن بصـر النبي صلى الله عـليه وسـلم ما زاغ وما طـغى لـيـلـة الإسـراء والمعـراج سـواء في الطـريـق بـين مـكة وبـيت المـقـدس، أو في الطـريـق صـعـودا إلى السـماء إلى سـدرة المنتهى، فـرؤيـته جـبريـل عـليه السـلام، ورؤيـته سـدرة المنتهى وما غـشيها، كل تـلك حـقائـق أراها الله تعالى له، قال تعالى:{ما زاغ البـصـر وما طـغى}.
قال الله تعالى:{لـقـد رأى مـن آيات ربه الكـبرى} (النـجـم ـ 18)، ما هي الآيات التي رآها الـرسـول صلى الله عـليه وسـلم؟ وما عـددها وما عـظـمها؟ لا نـدري، ولـكـن الله تبارك وتعالى وصـف الآيات التي رآها الـرسـول (صلى الله عـلـيه وسـلم) بأنها كـبرى، رأى فـيها النبي (صلى الله عـلـيـه وسـلـم) جـبريـل عـلـيـه السـلام عـلى صـورته الحـقـيـقـية المـرة الأولى : في مـكـة، وصـدق فـؤاده ما رأت عـيـنه، وصـدق أنه هـو النامـوس الـذي كان يأتي الـرسـل السـابقـين بالـوحي مـن الله العـزيـز الحـكـيـم، والمـرة الثانية عـنـد ســدرة المـنتهى لـيـلة الإسـراء والمـعـراج وهـذه كلها أمـور غـيـبـية لا نسـتطـيع أن نتجـاوز الحـد فـيها إلى الـقـول بـغــير عـلم ، وأولى وأسـلـم الـوقـوف فـيما لا نـعـلم.
إنها لآيات عـظـيـمة حـقا ينبني عـلـيـها ما يأتي بعـدهـا ، إذ يبين الله تعـالى للـكـفـرة أن هـذا هـو الـرسـول الحـق ، وأن ما جاء به هـو الحـق ، وأنه لا ينطـق عـن الهـوى إن هـو إلا وحي يـوحى، وأنه ما ضـل ولا غـوى، فأيـن أنـتـم وأين شـركاؤكـم؟، وكم هي قـوة شـركائكم؟ وما دلـيـلـكـم عـلى ما تـزعـمـون وتـدعـون؟ وأيـن ذكـاؤكـم وأيـن عـقـولـكـم التي تــدعـون وتـزعـمـون أن لـكـم قـلـوبا تـعـقـلـون بها.
لـقـد ركـز الله تعالى في إثبات صـدق النبي (صلى الله عـلـيـه وسـلم) عـلى تـلك الآيات العـجـيـبة، ولـقـد زعــم البـعـض أن الـذي دنا وتـدلى هـو الله تعالى: (تعالى الله عـن ذلك عـلـوا كـبيـرا) وإنما هـو جـبريـل عـلـيـه السلام، وهـذا هـو المشـهـور مـنـذ عـهـد الصحابة رضي الله عـنهـم إلى الـيـوم، ومـن قال بـغــير هـذا زلـت به قـدمه، وانـزلـق إلى مضـلة التـشـبـيه والتجـسـيـم، أعـاذنا الله تعالى مـن هـذا الانـحـراف وجـنـبـنا هـذا الانـزلاق، ولـنـقـف عـنـد حـدودنا، ولـنـكـتـف بهـذا الـفـهـم الـبـسـيـط لهـذه الآيات العـظـيمة.
ولـقــد ذكـرت الآيات الـسابـقـة قـسمـين:الـقـسم الأول مـن قـوله تعالى:{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (النجـم 5 ـ 12)، وهـذه الآيات تخـص بــدء الـوحي وأول نـزول جـبريـل عـلـيه السلام عـلى النبي (صلى الله عـلـيه وسـلم) في غـار حـراء، أو في واد مـن أوديـة مكـة المـكـرمـة ، حـيـث رأى النبي (صلى الله عـلـيه وسـلـم) جـبريـل عـلـيـه السلام عـلى صـورته الحـقـيـقـية في اليـوم الـذي بـدأ نـزول الـوحي عـلـيه وأرسـل، ونـزل فـيه أول نجـم مـن نجـوم الـقـرآن ، نـزل به الـروح الأمـين جـبريـل عـلـيـه السـلام ، عـلى قـلـب النبي (صلى الله عـلـيه وسـلم). أما الـقـسم الثاني فـيتـضـمنه قـوله تعالى:{ولـقـد رآه نـزلة أخـرى عـنـد ســدرة المنتهى عـنـدها جـنة المأوى، إذ يـغـشى السـدرة ما يـغـشى} (النجـم 13 ـ 16)، فالآية تـحـدد المـكان الـذي تمـت فـيه الـرؤية ، وهـو عـنـد ســدرة المنتهى.
وذهـب بعـض المـفـسرين إلى أن المـرة الأولى للـرؤية ، وهي الآيات التي تضـمـنـها القـسم الأول ، حــدثـت في السـماء السابعة ، وجـعـلـوا الـتـدني والـتـدلي والـتجـلي مـن الله تعالى لـرسـوله (صلى الله عـلـيـه وسلـم)، أي أنه اقـتـرب إلى ربه حـتى زعـم بـعـضهـم أن محمدا رأى ربه (تعـالى الله عـن ذلك عـلـوا كـبيرا)، قالت عـائشة أم المـؤمنـين رضي الله عـنها في هـذا الصـدد:(مـن زعـم أن محمـدا رأى ربـه فـقـد أعـظـم عـلى الله الـفـرية).
قال مسـروق: كـنـت مـتـكـئا عـنـد السـيـدة عـائشـة ـ رضي الله عـنها ـ فـقالـت :(يا أبا عائـشة ، ثـلاث مـن تـكلـم بـواحـدة مـنهـن فـقـد أعـظـم عـلى الله الـفـرية)، قـلـت:ما هـن؟ قالـت:(مـن زعـم أن محمـدا رأى ربه فـقـد أعـظـم عـلى الله الـفـرية) ، قال:وكـنـت مـتكـئـا فجـلـسـت فـقــلت: يا أم المـؤمنـين أنـظـريني ولا تعـجـلـيـني، ألـم يـقـل الله عـز وجـل: {ولـقـد رآه بالأفـق المـبين}، {ولـقـد رآه نـزلة أخـرى}؟.
فـقالـت:(أنا أول هـذه الأمـة سـأل عـن ذلك رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم) فـقال:(إنما هـو جـبريـل لـم أره عـلى صـورته التي خـلـق عـلـيـها غــير هـاتـين المـرتـيـن، رأيـته منهـبـطـا مـن السماء، سـادا عـظـم خـلـقه ما بـين السماء إلى الأرض)، فـقالت، أولـم تسـمع أن الله تعالى يـقـول:{لا تـدركـه الأبصـار وهـو يــدرك الأبصار وهـو اللطـيف الخـبير} (الأنـعـام ـ 103)، أولـم تسـمع أن الله يـقـول:{ وما كان لبشـر أن يـكلمه الله إلا وحـيا أو مـن وراء حجـاب أو يـرسـل رسـولا فـيـوحـي بإذنـه ما يشـاء إنه عـلي حـكـيم } (الشـورى ـ 51).
(أخـرجه الإمام الربيع بن حبيب حـديث رقـم ( 824 جـ 1، ص 310 ) وأخـرجه مسـلم حـديـث رقـم ( 178 جـ 1، ص 159).
وسـئـل النبي (صلى الله عـلـيـه وسـلم) هـل رأيـت ربـك ؟، قال:(أنى أراه )؟، وعـن أبي ذر الغـفاري ـ رضي الله عـنه ـ قال قـلـت يا رسـول الله: هـل رأيـت ربـك؟، قال:(نـور أنى أراه)؟.
ولـكـن بعـض المفـسرين تمسـكـوا بهـذا، ولا يـعـنـيـنا أمـرهـم ، ولـكـن الـوجـه الـذي اخـتـاره الجمهـور هـو أن القـسم الأول مـن هـذه الآية كان في أول نـزول الـوحي بأدلة كـثيرة أولها : قـوله تعالى:{ عـلمه شـديـد الـقـوى ذو مـرة}، و{شـديـد القـوى} و{ذو مـرة}هـو جـبريـل عـليه السـلام، والمـراد بقـوله:{عـلمـه} أن يـبـين أن النبي (صلى الله عـلـيـه وسـلـم) لـم ينسـج هـذا القـرآن مـن تـلـقـاء نفـسـه ، ولم يكـن يخـطـر ببـاله أن يـلـقى إلـيـه مـثـل هـذا، كما قال له الله تعالى:{وما كـنـت تـرجـو أن يـلقى إلـيـك الكـتاب إلا رحـمة مـن ربـك فـلا تـكـونـن ظهـيرا للـكـافـرين } (القـصص ـ 86).

.. وللحـديث بـقـية.

ناصر بن محمد الزيدي