لم أخف سعادتي حين علمت بأنه تم اختياري أمينا عاما للمؤتمر الثقافي الذي سينظمه اتحاد كتاب مصر يوم 24 أكتوبر المقبل في مدينة المنصورة، وما كان شعورا خالصا بالسعادة ، بل تكدر بشيء من القلق، وكلا الشعورين، السعادة والقلق يفيضان من ذات النبع! وكثيرا ما كتبت في مختلف الصحف عما تعانيه مؤتمراتنا الثقافية من عوار.
إن عدد هذا الصنف من المؤتمرات يتجاوز الثلاثين مؤتمرا سنويا في مصر وحدها، ما بين مؤتمرات الأقاليم التي تنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة ومؤتمرات اليوم الواحد في اتحاد الكتاب ومؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة، بالإضافة إلى مؤتمرات أخرى تنظمها كليات الآداب والتربية ودار العلوم واللغة العربية بالجامعات، وعلى مستوى العالم العربي قد يتجاوز الرقم حاجز المئة.
والدوافع وراء بعض مثل هذه المؤتمرات ليست دائما بريئة، فإما أن القائمين على الجهة المنظمة تنتابهم حالة من الحنين الجارف للظهور في الفضائيات والصحف! أو أن ثمة فائضا في ميزانية المؤسسة أو المنتدى ويكون الحل تنظيم مؤتمر للتخلص من هذا الفائض !
فما هي محاور المؤتمر؟ وماذا سيبحث ؟ ومن سيشارك فيه ؟ عشرات الأسئلة قد تتم الاجابة عليها على عجل، بينما كل عضو في لجنة التنظيم منشغل بدعوة الباحثين من أصدقائه ليأتوا بأبحاثهم !
ولأن الموضوع كله يفتقد إلى الدقة، تداهمنا أبحاث معلبة استهلكت بالمشاركة في عشرات المؤتمرات والنشر أيضا عشرات المرات، وربما قبيل انعقاد المؤتمر بعدة أيام يتذكر أحد المنظمين أن اللجنة المنظمة لم تضع عنوانا للمؤتمر فيسأل رئيسه ليجيبه سريعا وهو منهمك في الاستعداد لاجراء مقابلة حول المؤتمر مع احدى القنوات الفضائية: الأدب وتحديات العولمة ، أو اللغة العربية في الألفية الثالثة ، أو جماليات السرد المعاصر ! عناوين فضفاضة وتهويمية تصلح في الظاهر أن يستظل بها أي بحث ، وهي في الحقيقة تفتقد للدقة العلمية والتحديد الذي ينتهي إلى مخارج مجدية !
وفي العادة لا يعي منظمو هذه التجمعات الثقافية الفارق ما بين الندوة والمؤتمر، فالندوة ينبغي أن تنظم تحت عنوان ينطوي على ظاهرة ما، فيكون الهدف استجلاء أبعاد هذه الظاهرة، على سبيل المثال "العامية في الرواية العربية" ، حيث يلوذ بعض الروائيين العرب باللهجة العامية في أعمالهم الروائية، هل لاعتقادهم أنها تضفي شيئا من الواقعية على العمل؟ أم لعجزهم عن تسخير الفصحى في السرد والحوارات ! مثال آخر "مستقبل القصيدة العمودية" حيث ثمة توقعات بأن الشعر العمودي في طريقه إلى الانقراض" تلك أيضا ظاهرة تطرح في سؤال يصلح لأن يكون عنوانا لندوة للبحث عن أسباب الظاهرة إن كانت الإجابة بنعم ، وهل يؤثر غياب العمود على ديوان العرب؟ ظواهر من هذا النوع الحوارات حولها تؤطر في ندوات وليس مؤتمرات، والظاهرة
لا تعني أن ثمة إشكالية، فقد تكون ظاهرة حميدة وبالتالي تنظم ندوة بهدف تسليط الأضواء عليها وتكريسها مثل اختراق العشرات من المفردات العربية للغات أخرى كاللغة الفرنسية، انتشار الثقافة العربية في دول غرب إفريقيا، هذه ظواهر إيجابية، فإن كشفت المناقشات والحوارات عن أن الظاهرة مثار البحث تمثل إشكالية، فيمكن الإعداد لمؤتمر يخوض في جذورها وأبعادها، والتوصل إلى حلول لها، أي أن المؤتمر لا ينظم إلا تحت وطأة مشكلة ما ينبغي مواجهتها.
كان هذا وراء شعوري بالسعادة، أن تشريفي بأن أكون أمينا عاما لمؤتمر ثقافي مهم مثل مؤتمر المنصورة يتيح لي الفرصة للمشاركة في تنظيم مؤتمر يخلو من السلبيات التي تثقل كاهل المؤتمرات الثقافية الأخرى في العالم العربي، إلا أنني لم أنج من الشعور بالقلق، فخبرة أربعة عقود صحافة علمتني أن ثمة فجوة هائلة بين التنظير والواقع، فما أيسر أن أكتب عن إشكالياتنا الثقافية، فإن انخدع صانع القرار فيما أكتب وأصدر قرارا بتنصيبي وزيرا للثقافة، فلا أستبعد أن يسجل التاريخ اسمي كـ"أفشل وزير للثقافة" !
وثمة مثل بالعامية المصرية يقول "إللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار".
لقد اقترحت على الزملاء في المنصورة إشكالية أراها أحد أكثر التحديات التي تهدد العمل الثقافي العربي، غياب القارئ، حيث ثمة معادلة مألوفة: ثقافة مستنيرة تساوي عقل جمعي مستنير ، وهذا يعني أن الثقافة ـ والإبداع بالطبع أحد محاورها ـ رسالة، هذا يقيني، رغم استهزاء بعض الحداثيين، وتعليقهم الساخر إن ردد بعضنا هذا، أن الكاتب صاحب رسالة، "الرسالة في صندوق البريد، عبارة يقال إن قائلها أنطون تشيكوف، لكنني أرى ـ وأظن أن هذا موقف غالبية المثقفين ـ أن فيلسوف فرنسا الكبير جان بول سارتر الذي ولد بعد وفاة تشيكوف بعام كان على صواب حين كرس مبدأ "الأدب التزام" ، بقوله في كتابه "ما الأدب ؟ " "لنكتب أولا، لنقول شيئاً للأحياء, ولا يضير ألا يبقى لأحفادنا الذين لن يحسوا بقيمة الحوادث الراهنة إلا الإعجاب بأسلوبنا ولكن لا يحسن بنا أن نتوخى الأسلوب لذاته, إن المسئولية والصدق يأتيان أولا, والأسلوب والجمالية فى المحل الثانى.
وهذه المقولة "الكتابة التزام"، تعني أن ثمة رسالة للكاتب رسالة ينبغي أن تصل، لتلعب دورها في تخصيب العقل الجمعي للنهوض بالمجتمعات، ومجتمعاتنا العربية أمس واليوم وغدا في أشد الحاجة لهذه الرسالة، رسالة الكاتب.
ولدينا في كافة الأقطار العربية كتاب، مفكرون ومبدعون على مستوى عال من الجودة، ولدينا وسائط معنية بتوصيل رسالتهم، دور نشر خاصة وحكومية، وشركات توزيع، وميديا تحتفي بالمنتج الثقافي، لكن على الطرف الآخر أمام منافذ البيع وقاعات المكتبات لا أحد، لهذا ألح في كتاباتي على أن القارئ العربي على وشك الانقراض.
ولهذا أيضا اقترحت على الأصدقاء في فرع اتحاد كتاب الدقهلية ودمياط أن تكون تلك الإشكالية الخطيرة محور المؤتمر الذي يمكن أن يكون عنوانه "الحاضر والغائب، في معادلة الثقافة والمجتمع" والحاضر هو المثقف، منتج الثقافة، والغائب هو المستهلك، متلقيها، لذا نعاني من حالة انشطار حادة بين المثقف والمجتمع، أخدود هائل يشطر المثقف عن مجتمعه، وبالتالي أصبح المجتمع فريسة سهلة للفكر المتشدد ولمروجي الدجل والشعوذة "الباحث السعودي الدكتور فهد بن عبد العزيز السنيدي، أستاذ المذاهب المعاصرة بجامعة الملك سعود كشف في بحث له أن العرب ينفقون على ممارسات السحر والشعوذة ما بين 5 إلى 7 مليارات دولار سنويا سنويا" لأن رسالة المثقف في العالم العربي لا تصل إلى قاع المجتمع !
وأظن أن منظومتنا التعليمية مسئولة تماما عن غياب متلقي الثقافة الجادة والمستنيرة، حين يكون المستهدف من التلميذ على مدار ستة أو سبعة عشر عاما فقط ذاكرته، لا شيء يخاطبه النظام التعليمي لدى التلميذ سوى الذاكرة، يجري حشوها عاما وراء عام بكم هائل من المعلومات. مما يصيب قدراته الأخرى الأهم بالكسل، وهذا ما ينبغي أن يوصي به مؤتمر الدقهلية ودمياط، نسف النظام التعليمي الحالي واستبداله بمنظومة تتحول فيها قاعات الدراسة إلى معامل للتفكير والتحليل والاستنباط، ليكن الهدف الأول للنظام التعليمي تحفيز التلميذ على التنقيب عن المعلومة وربطها بغيرها من معلومات، وكيفية التعامل معها مما يؤجج لديه شهوة المعرفة فيمضي سنوات عمره، متسائلا، مفكرا، محللا، وحين يكون هذا حاله يصبح الكتاب رفيقه حتى شهقته الأخيرة، وهذا يقتضي بطبيعة الحال تغيير هيكلي في نظم الامتحانات، فلا يكون الهدف من وراء امتحان آخر العام، قياس مدى قوة ومتانة الذاكرة، بل قياس مدى قدرة الدماغ على أن يرى ويعي ويحلل ويستنبط ومدى استشعار ملكة التذوق في الوجدان لجماليات الحياة، وفي حالة مثل هذه لا مانع من السماح للطالب بأن يصحب معه إلى داخل لجنة الامتحان كتبه المدرسية ومحموله وجهاز الكومبيوتر الخاص به، فالسؤال لن يكون عن معلومة حفظها، بل عن كيفية تعامله مع المعلومة، وقدرته على ربطها بغيرها من المعلومات، وفي امتحانات مثل هذه يكون عبقريا من يحصل على 75 أو 80%.
وعلى حد علمي، هذا الخلل الذي أصاب معادلة الثقافة والمجتمع بغياب المتلقي لم يتطرق إليه أي مؤتمر ثقافي عربي، وأظن أن تبني مؤتمر اتحاد كتاب الدقهلية ودمياط لقضية مثل هذه والتفتيش عن جذورها سواء في منظومتنا التعليمية أو غيرها سيجذب أنظار الميديا والباحثين، وقد يكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل الشاقة لتخليق القارئ الجاد.
هذا ما آمله، وإن كان يشوب الشعور بالأمل، إحساس بالخوف، بالقلق، من أن يفاجئنا الواقع بمصاعب وتحديات تنسف المؤتمر نسفا، ويصبح مصيره مصير عشرات المؤتمرات الثقافية التي تنظم سويا، الفشل !

محمد القصبي