أظنه مشروعا جديرا بدعمنا، هذا الذي يطلقون عليه في الولايات المتحدة الأميركية المكتبة العربية، عمره الآن أربع سنوات، حيث شهد عام 2010 ضربة البداية، منحة مقدمة من معهد جامعة نيويورك أبوظبي وبالتعاون مع دار النشر التابعة لجامعة نيويورك.وكان طرحه الأول كتاب "الأدب العربي الكلاسيكي" الذي صدر عن دار النشر الخاصة بجامعة نيويورك الأميركية لمعده ومترجمه إلى الانجليزية الباحث الأكاديمي غريت جان فان غيلدر.والكتاب عبارة عن أنطولوجيا موسعة تضم مختارات شعرية ونثرية تمتد على مساحة زمنية واسعة تبدأ بالعصر الجاهلي وتنتهي بالقرن الثامن عشر الميلادي، مع مقدمات وتراجم مختصرة لأصحابها.
وأهمية مشروع المكتبة العربية أنه سيقلص من مساحة الصورة المغلوطة في المخيلة الأميركية والغربية بشكل عام حول الكائن العربي، فمازالت الغالبية العظمى من الغربيين يرون العربي هكذا: بدوي يمتطي بعيره وبندقيته تدلى من كتفه ويجوب الصحراء باحثا عن غنيمة أو امرأة يسبيها !بالطبع بضعة ملايين تغيرت الصورة لديهم، هؤلاء الذين زاروا العواصم والمدن العربية للسياحة أو العمل، حيث رأوا مجتمعات تم تحديثها وشباب يفكرون بشكل عصري دون إقصاء لتراثهم!
تلك الصورة المغلوطة أسهمت سينما هوليوود في تكريسها، هذا ما يقوله البروفيسور الأميركي ذي الأصول العربية جاك لندن، وقوله ليس مجرد انطباع أو رؤية ذاتية، بعد مشاهدة فيلم أو فيلمين، بل هي نتاج دراسة علمية على ما يقرب من ألف فيلم أنتجتها هوليوود، وهكذا كان يبدو "العربي" في العديد من هذه الأفلام، البدوي الذي يجوب الصحراء ممتطيا بعيره، وتتدلى بندقيته من كتفه، وعيناه تمسح الصحاري الممتدة باحثا عن غنيمة أو امرأة يسبيها! وفي أفلام أخرى يظهر العربي بصورة عصرية، يرتدي بدلة أنيقة، ويرتاد المطاعم والأندية، ويفخخ السيارات الفخمة لتنفجر في الشوارع المزدحمة لتزهق أرواح العشرات من الأبرياء!
في كتابه "كفى صمتا" يحكي السيناتور الأميركي السابق بول فندلي عن طفولته، يقول إنه سمع لأول مرة عن العرب والمسلمين من خلال معلمته في المرحلة الابتدائية، كانت تقول: المحمديون أناس يعيشون في الصحراء وليسوا منا !
وحتى بعد أن عرك "فندلي" الحياة الحزبية، وأصبح سيناتورا مرموقا، لم يكن يعرف الكثير عن العرب سوى هذا الراسخ في قراره من حكي معلمة المرحلة الابتدائية، وتم تدعيمه بمغالطات منظمة العلاقات العامة الإسرائيلية الأميركية "أيباك" والتي تسعى إلى تشويه صورة العربي في الذهنية الأميركية وتسويقه كإرهابي متخلف، يرفض الحضارة الحديثة! إلى أن لاذت به أسرة أميركي ألقي القبض عليه في مدينة عدن في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهو يلتقط صورا للمطار، حيث وجهت له تهمة التجسس، وقرر "فندلي" أن يساعد الأسرة الأميركية، فحزم حقائبه عازما على السفر إلى المجهول ! إلى العالم العربي، إلى اليمن .
وفي كتابه لا يخفي مشاعر القلق التي نهشته عشية السفر، ها هو يسافر إلى الصحارى العربية بجِمالها وإرهابييها! وظل نهبا لوساوسه إلى أن وطأت أقدامه أرض اليمن، ليفاجأ بشعب ودود، سمح، كريم، وانتهت اتصالاته بلقاء كبار المسئولين ليتم الإفراج عن مواطنه الأميركي !وعاد إلى أميركا، لكنه لم يعد كاملا، بل ظل ذهنه هناك في اليمن، منشغلا بالناس وحفاوتهم ومروءتهم وكرمهم، ولم يكف عن التساؤل: أهؤلاء هم العرب الإرهابيون الذين يسعون إلى إلقاء اليهود في البحر ! واتخذ قراره أن يقترب أكثر من هؤلاء الناس، دينهم، تراثهم، عاداتهم، قيمهم، همومهم، طموحاتهم، وزار المنطقة العربية أكثر من مرة، وقرأ في الدين الإسلامي، وفي التراث الإسلامي، لينتهي أنه، وأبناء شعبه الأميركي، والغرب كله يتعرض لمؤامرة كبرى هدفها رسم صورة مغلوطة عن العرب، لحساب الدولة العبرية!
ولم يكتف فندلي بمعرفة الحقيقة، بل قرر أن تكون تلك معركته، فضح المؤامرة وإظهار حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط، فأصدر كتابه "كفى صمتا" وكتب أخرى أتذكر منها "يقولون في الكنسيت ما لا يجرأون على قوله في الكونجرس" وفي هذا الكتاب يفضح سطوة اللوبي اليهودي على الكونجرس والحياة السياسية في أميركا، وأسس جمعية لمناصرة العرب والمسلمين في معركتهم لتحسين صورتهم في المخيلة الجمعية الأميركية، وكان الثمن الذي دفعه فندلي باهظا، إسقاطه في انتخابات الكونجرس! لكنه لم يبال ويواصل معركته الشريفة !فما علاقة بول فندلي بمشروع "المكتبة العربية" ؟
أظن أن هذا المشروع يمكن أن يسهم في تحقيق نفس الأهداف التي سعى إليها فندلي، تصحيح الصورة المغلوطة عن العرب في المخيلة الغربية .
فالمشروع يستهدف إنشاء مكتبة تضم نصوصا عربية ذات قيمة مرجعية تصاحبها ترجمات إنجليزية تتصف بحداثة الصياغة وسلاسة الأسلوب وترمي إلى تعريف الباحثين والطلاب والقراء غير المختصين بموروث الأدب العربي، ويشرف على "المكتبة العربية" ويحرر إنتاجاتها باحثون وأكاديميون مختصون بالدراسات العربية والإسلامية من العاملين في مختلف الجامعات العالمية كجامعة نيويورك وكامبردج وأكسفورد وكورنيل وكاليفورنيا وبنسلفانيا وشيكاغو وأموري، ويشترك المحررون باختيار النصوص وتفويض المترجمين ومقابلة المخطوطات والمراجعة النهائية للنصوص المحققة والمترجمة، وذلك بالتعاون مع لجنة دولية تتشكل من 27 عضوا من مختلف دول وجامعات العالم المرموقة للعمل على وضع خطة لتطوير سلسلة المنشورات على المدى البعيد.
وطبقا لما هو مقرر سيتم نشر 35 كتابا خلال خمس سنوات بصفحات متقابلة تضم النصوص بالعربية مع الترجمة الإنجليزية لها، وتضم السلسلة عناوين في مختلف مجالات العلوم والفنون، وكتب الدين وعلومه والفقه وأصوله، والفلسفة والعلوم الطبيعية، وكتب الأخبار والتاريخ، والشعر ونقده، وأدب القصة والحكاية، تلك الترجمات المتنوعة والأصيلة عن اللغة العربية يأمل رعاة المشروع ومنظموه أن تثري المكتبة الإنجليزية التي تعاني من نقص ملحوظ في مخزونها من كتب التراث العربي مقارنة بما تتم ترجمته عن التراثين الإغريقي واللاتيني
وماعلاقة مشروع "تراثي" كـ"المكتبة العربية" بتصحيح الصورة المغلوطة للعربي في المخيلة العربية ؟
السائد وعبر عقود، بل قرون ـ وكما نوهت سابقا ـ أن العرب استقرت صورتهم في الذهنية الغربية قتلة وإرهابيون ومغتصبو نساء، فشعب هذا حاله هل يمكن أن يكون لديه هذا المخزون الهائل من التراث الانساني في الأدب والفكر والفلسفة وعلوم الطب والفلك؟ أظنه سؤالا سوف يطرحه كل قارئ أميركي أو أوروبي لتراثنا العربي، وسوف يدرك كما أدرك بول فندلي أنه كان ضحية مخطط تآمري لتشويه صورة هذا الشعب المبدع المفكر ،الشهم ، صاحب المروءة !وهذا ليس بحديثي أنا بل حديث سياسي أميركي عظيم هو بول فندلي حين سافر إلى أرض العرب، واختلط بهم، وسوف يكون حديث كل من يقرأ مخرجات مشروع المكتبة العربية في نيويورك !

محمد القصبي