ثنيت جذعي لآخر ضربة في هذا البستان ، بعدها رفعته بصعوبة ، كأنني أحمل عليه أكواما من الهموم ، تسابقت حبات العرق بالسيلان من على جبيني ، أدرت رأسي إلى الناحية الأخرى ، لعل الشمس ستخفف قصف أشعتها الحارقة علي ، لم ألبث هنيهه إلا وريح ساخنة مرت من جانبي ، يا إلهي يوم آخر يشتد حره من سابقه ، لا أظن بأنني سأحصد حصادا وفيرا هذه السنه ، لماذا أنا ؟ لماذا ؟ فبستان أبي بلال حصاده وفير كل سنة ، بل بستان العم أحمد أكثر خضرة ، وغيرهم من المزارعين ، وانا حالي مرهون بهذا البستان الشبه خال ، لماذا انا الذي ورثت هذا البستان ، بعد كل هذه التساؤلات العقيمة ملت إلى اليأس مطأطئا رأسي للأسفل ، لكن نمت بداخلي بذرة أمل عندما تذكرت خالد.
بدأ الشفق الأحمر بالظهور معلنا عن قدوم ليل مجهول المحتوى ، ايقنت حينها أنه قد حان وقت عودتي للمنزل . وكالعادة استقبلتني جارتنا العجوز الخرفة بعبارتها الغامضة ( هل اكتشفت الكنز ) ثم تغرب عن وجهي وابتسامة ساخرة مرتسمة على وجهها المليء بالتجعدات .
دخلت المنزل وانا اتمتم بعبارات غضب لتلك العجوز(عن أي كنز تتحدث تلك المجنونة ، لست سوى مزارع فقير ، ومن أين سيكون لي كنز ؟ أنا متأكد بأن الخرف قد طغى على عقل تلك العجوز) ، وهذه هي حياتي ، لا جديد ولا مفيد فيها .
في احدى ليالي اكتمال القمر دُق باب منزلنا ، هرعت لفتحه ، لا أعلم سبب ذلك ، فتحت الباب فإذا بذلك الانسان الذي لم أعد أطيق رؤية وجهه ، قلت له فورا : نعم خالد ماذا تريد ، قال : ضاعفت لك المبلغ ، فهل ستقبل الآن ببيع قطعة الأرض تلك ، أجبته : قلت لك لا ، ألا تفهم لا أريد ان أبيع قطعة الأرض تلك ، دعني وشأني أنت وامك الخرفة ، لا أعلم سبب رغبتك في امتلاك بستان عقيم ، لكن أتعلم ، إصرارك هذا على شراء بستاني ، يزيد من رفضي لتلك العروض التي تقدمها لي من أجل البيع . بعدها اغلقت الباب في وجهه .
في تلك الليلة لم أستطع النوم ، خالد وأمه العجوز شغلا تفكيري ، حتى عبارات أبي الأخيرة ما زالت صداها يتردد في أذني ، ( تأمله جيدا فهو جميل ) ، حاولت وقتها ترتيب الأحداث من حولي ، قفزت إلى ذهني اسأله كثيرة لكن بدون مفاتيح للأجوبة ،بعدها خرجت من قاع تفكيري وقررت أن أتركها للأيام .
صحوت متأخرا في صبيحة اليوم التالي ، وعند خروجي من باب المنزل ، رأيت في وجهي أم خالد ، قلت في نفسي هذه العجوز وابنها هما من يجلبا لي الحظ السيىء في حياتي ، أنا متأكد من ذلك ، أسرعت لوضع أصابعي بداخل قوقعتي وأنا أتمتم بصوت عال بكلام أنا نفسي لم أفهمه . لا أريد أن أسمع منها شيئا.
اتجهت حينها لسوق القرية لشراء بعض المستلزمات ، ولكن لسوء حظي قابلت شخصا أدين له بمال اقترضته منذ مدة ، ودائما ما يطالبني به ، لكن ماذا عساي ان أفعل ، جيوبي لا تحوي على ربع ذلك المبلغ ، لم أكمل تساؤلاتي إلا وقفز في وجهي وتجاعيد مخيفة مرتسمة على وجهه بعنف ، قال لي وهو يزأر من الغضب : اليوم هو آخر يوم لك ، لديك خياران ، تعطيني المبلغ قبل غروب الشمس ، أو تسلمني بستانك حالا ، خياران لا ثالث لهما اسمعت ؟ ، قال آخر كلمة ولهاث الغضب واضح عليه ، بعدها انصرف، تعقدت أفكاري ، لم استطع ربط الاشياء من حولي ، كيف أعطيه منزلي ؟ أين سأسكن انا وعائلتي ؟ والبستان ؟ هو مصدر رزقي الوحيد ؟
ظهر خالد في هذا الوقت ، جرني بسرعة إلى شاطئ البحر ، وأن ما زلت في صدمة مما يحدث حولي ، أيقظني خالد من شرودي قائلا : أنا الشخص الوحيد الذي سأنقذك من المشكلة ، اسمع سأعطيك المبلغ الذي اقترضته من ذلك الشخص ، بشرط رفعت رأسي بتثاقل لسماع شرطه ، أن أصبح شريكك في البستان ، ما رأيك ؟ ، تعقدت حواجبي غضبا ممزوجا بالصدمة ، قلت في حيرة: أنا لا أفهم ، لماذا فكرك يحوم حول بستاني ؟ ، قال : سأخبرك السبب بعد أن اصبح شريكك ، صدقني انا لا انوي شرا ، وستشكرني بعد أن تعرف السبب .
رددت المبلغ المقترض إلى صاحبه في الوقت المحدد ، لكن المشكلة لم تنته ، خالد هو شريكي في البستان ، لكن ما بليد حيله ، قال لي خالد : لدي مفاتيح الأسئلة التي تجول في خاطرك ، كلمات والدك وأمي ، وسبب إصراري على شراء البستان ، تعال معي .
توجهنا إلى البستان ، أخذني إلى جزء من البستان كنت قد أهملته بسبب قربه من السفح ، الآن انفكت العقد ، نعم الآن عرفت السر ، عاد صدى كلمات والدي إلى أذني تأمله جيدا فهو جميل ، حقا إنه جميل ، بل كلمة جميل قليلة في حقه ، لأول مرة في حياتي أرى الشمس وهي تجر خيوطها الذهبية للرحيل ، انعكاسها الخلاب على البحر ، مع تدرجات ألوانها الناعسة عليه ، نسمات رقيقة تحرك أغصان الأشجار ، كأنها تلوح للشمس ، تودعها بهدوء عجيب ، وفي ناحية قريبة قوارب صيد تتأرجح بين جهتين ، كأنها تتراقص على ألحان الغروب العذبة .
جمال ساحر ، وبستاني هو المكان الوحيد الذي يطل على هذا المنظر ، إذا كان هذا المنظر الساحر للغروب فقط ، فأنا على أتم الشوق لشروق يوم جديد .

هالة بنت هلال البوسعيدية