[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
”.. للأسف الشديد هذه الثورة المعلوماتية في الاتصال لم يكن كلها خير ولم ينعكس أثرها الإيجابي تطوراً ونماء وتغيراً للأفضل على الإنسان العربي خصوصاً؛ الذي بسبب ضعف تكوينه المعرفي والثقافي وتواضع قدرته على الفرز والتمحيص، والاختيار بين الغث والثمين والأصيل والهجين ـ فتحول لفريسة سهلة تتقاذفها وسائل الإعلام المختلفة...”
ـــــــــــــــــــــــــــ

ظللنا حتى سبعينيات القرن الماضي نظن أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس لمصر بعد ثورة يوليو 1952م، حتى قام السادات برفع الإقامة الجبرية عن محمد نجيب وسمح للإعلام متمثلاً في المجلات والصحف القومية بتسريب حقيقة مشاركته للضباط الأحرار في الثورة وتوليه الرئاسة كأول رئيس للجمهورية؛ ومن ثم الإطاحة به ووضعه تحت الإقامة الجبرية بفيلا زينب الوكيل بضاحية المرج بشرق القاهرة.
وحتى هذا الزمان لم تكن هناك سوى الصحف والمجلات الحكومية والإذاعة والتليفزيون الرسمي للدولة، وأغلفة الدفاتر المدرسية المكتوب عليها أهداف ثورة 23يوليو، وكان يتاح للبعض على نطاق ضيق التقاط إرسال إذاعتي لندن أو مونت كارلو في ساعة متأخرة من الليل. ولم تكن هناك أبواب خلفية يستطيع أن ينفذ من خلالها الإعلام الخارجي قبل ظهور المحطات الفضائية والشبكة العنكبوتية التي جعلت من المستحيل السيطرة على وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وأضيف إليها مؤخراً شبكات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك وتويتر)؛ لتغل يد الحكومات في السيطرة على وسائل الإعلام أو وقف تدفق المعلومات ـ الصحيحة والمغلوطة ـ أو اختراق (التابوهات) التي ظلت لسنوات طوال صامدة لا يستطيع ولا يجرؤ أحد الاقتراب منها أو مخالفتها.
ولكن للأسف الشديد هذه الثورة المعلوماتية في الاتصال لم يكن كلها خيرا ولم ينعكس أثرها الإيجابي تطوراً ونماء وتغيراً للأفضل على الإنسان العربي خصوصاً؛ الذي بسبب ضعف تكوينه المعرفي والثقافي وتواضع قدرته على الفرز والتمحيص، والاختيار بين الغث والثمين والأصيل والهجين ـ فتحول لفريسة سهلة تتقاذفها وسائل الإعلام المختلفة كل حسب توجهاتها وأجندتها الخاصة وأيديولوجياتها، مستخدمة مرة الدين وما يمثله من قداسة عند المتلقي العربي وأشعلت القضايا الفقهية الخلافية والانتماءات المذهبية والنعرات العرقية والقبلية.
واستُخدِم الخطاب الإعلامي أسوأ استخدام في الصراع السياسي الذي خلفه الربيع العربي، وراح الفرقاء السياسيون يبثون من خلال المنابر الإعلامية التابعة لهم أفكاراً وآراء سياسية مناوئة للفريق الآخر مستخدمين في تحقيق هدفهم كافة الوسائل؛الشريفة والدنيئة غير مبالين بالمصداقية أو المهنية أو مواثيق الشرف الإعلامية المتعارف عليها بداية من "فبركة" الأخبار والصور الكاذبة أو توثيق آرائهم بمقاطع فيديو مزورة أو تسجيلات صوتية خضعت للمونتاج والعبث بمحتوياتها وللأسف الشديد تلقف المواطن العربي هذه الرسالة الإعلامية المشوهة وكون من خلالها وجهة نظره التي تكون في أغلب الأحيان متطرفة وناقمة على الطرف الآخر (الخصم السياسي) بل أضحى مشاركاً في هذا الصراع العبثي من خلال إرساله (تشييره) لهذه الفيديوهات والصور المفبركة بحسابه على (الفيس بوك وتويتر) ـ للمكايدة ونشر الشائعات والأكاذيب والخوض في الأعراض والذمم والسمعة دون أن يهتز له رمش؛ متجاهلاً ما قد يحدثه فعله من أذى بالآخرين.
بل أصبح هناك على شبكات التواصل الاجتماعي لجان إلكترونية مهمتها تلقف هذه الرسائل وفحصها فإذا وجدتها على هواها أعادت نشرها على نطاق أوسع، وإذا وجدتها معارضة لتوجهاتها قامت بحذفها، ناهيك عن دورها الأساسي في كيل السباب والشتائم لصاحب التعليق المخالف لها في الرأي؛ حتى اضطر كثير من العقلاء لإغلاق حساباتهم والابتعاد نهائيا عن (تويتر وفيس بوك) احتراما لأنفسهم.
حتى وسائل الإعلام العالمية العريقة كان لها إسهامات سلبية في توجيه الرأي العام، فقد استضافت قناة البي بي سي صحفياً أسود من جنوب إفريقيا شن هجوماً ضارياً على المناضل الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا ـ يوم وفاته ـ واتهمه بأنه انحاز للمستعمرين البيض على حساب الأغلبية السوداء وأنه بعد مرور عشرين عاما على انهيار نظام الفصل العنصري وتولي السود السلطة ما زال معظم السود يسكنون في عشش الصفيح، وما زالوا يعانون للحصول على فرص العمل وما يكفيهم من الغذاء، وما زالوا عرضة للإصابة بالإيدز والأمراض الوبائية بسبب غياب التوعية، وتدني الخدمات الصحية بأحياء السود، في الوقت الذي يسكن فيه الأفريكان البيض في الأحياء الراقية والتي ما زالت عصية على السود، بل إنهم ما زالوا محتفظين بلغتهم وثقافتهم الخاصة بهم الموغلة في العنصرية والفاشية، وفي حين ترك البيض المناصب السياسية للسود ليكتووا بنارها؛ احتكروا هم الثروة والمناصب القيادية في الشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات وامتلكوا الضياع والعقارات وأحدث أنواع الطائرات والسيارات واليخوت واكتفى السود بالوظائف الوسطى والمهن الخدمية والدنيا في بلد غني بموارده الطبيعية وتنوع ثرواته ـ حيث تعد جوهانسبرج من أغلى العواصم في العالم ـ ولا مكان فيها للفقراء مما أدى لتفشي الإدمان والجريمة بين السود ـ حدث ذلك دون معارضة أو تعقيب من مقدم البرنامج أو عرض وجهة نظر معاكسة ترد هذا الهجوم الضاري على رجل ميت.
وتغطية وكالات الأنباء العالمية للأحداث في مصر بعد 30/6/2013 كان فيه قدر كبير من التحيز والبعد عن المهنية والمصداقية والخلط بين الرأي والخبر، فما من مرة يُذكر محمد مرسي إلا وتصفه الوكالات: بأول رئيس مدني منتخب عزله الجيش وتعرض للاختفاء القسري؛ متجاهلين تماما نزول أكثر من 30 مليون مصري ضد مرسي ولا التهم الجنائية الموجهة له، ناهيك عن شرح معنى إشارة رابعة كلما ورد ذكرها في خبر أو كلام صورة ويصرون على تكرار وصفها: بمذبحة ارتكبتها الشرطة المصرية ضد معتصمين سلميين راح ضحيتها آلاف القتلى، متجاهلين العدد الرسمي الصادر عن وزارة الصحة المصرية والذي لا يتجاوز الـ 300 قتيل ولا يأتون على ذكر الضحايا من ضباط وأفراد الشرطة الذين قتلوا جراء وجود أسلحة ومتفجرات شديدة الخطورة بأيدي المعتصمين في رابعة ـ إلاّ إذا كانوا انتحروا أو قتلوا على أيدي زملائهم.
ونفس الشيء تفعله بعض المحطات الإخبارية العربية؛ فتصور عشرات المتظاهرين من زاوية معينة فيظهروا على أنهم حشود بالآلاف وتظل تعيد وتزيد في عرض هذا المقطع الوهمي حتى يظن المشاهد أن الثورة قامت في هذا البلد؛ ضاربة بالمصداقية والمهنية عرض الحائط في سبيل تأصيل وجهة نظرها المنحازة لأحد طرفي النزاع.
ونفس الشيء حدث عند تغطية الاستفتاء على الدستور الذي جرى في مصر مؤخراً ؛ تجاهل تام لنزول أكثر من 20 مليون مصري للإدلاء بأصواتهم وسط أجواء احتفالية وإشراف قضائي، وتركيز شديد على الانتهاكات والاحتجاجات التي واكبت يومي الاستفتاء من قبل جماعة الإخوان ـ وللأسف تجد هذه الرسالة الإعلامية المشوهة صدى وتأييداً لدى قطاع كبير من المتلقين الذين وثقوا في هذه المحطة أو تلك و اختاروها دون غيرها ليستقوا منها معلوماتهم وتوجهاتهم ولا يرضون بغيرها بديلاً مهما تكشف لهم.