الحمد لله والصلاة والسـلام عـلى رسـول الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وبعد:
فيقول الله تعالى في كـتابه العزيز:{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يؤمـنون بالآخرة اعـتدنا لهـم عـذابا ألـيما} (الإسـراء 9 ـ 10).
لقد أرسـل الله رسـوله محمـدا بالهـدى ودين الحـق، بـعـد فـتـرة مـن زمـن النبي عـيسى بن مـريـم، فجـاء الـرسـول محمـد (صلى الله عـلـيه وسـلـم) ليخـرج الناس مـن الظـلمات إلى النـور، ومـن جـور الأديـان إلى عـدالة الإيمان، جـاء الـرسـول محمـد (صلى الله عـلـيـه وسـلم) بالـدعـوة إلى تـوحـيـد الله، والإيـمان بـالـيـوم الآخـر، وأن الناس لا يـتـفـاضـلـون بأمـوالهـم ولا بـسـلطانهـم، ولا بشـرفـهـم وأنسابهـم، ولـكـن يـتـفـاضـلـون بالـتـقـوى، قال تعالى:{يا أيها الناس إنا خـلـقـنـاكـم مـن ذكـر وأنـثـى وجـعـلـنـاكـم شـعـوبـا قـبـائـل لتعـارفـوا، إن أكـرمـكـم عـنـد الله أتقـاكـم إن الله عـلـيـم خـبـير} (الحجـرات ـ 13).
وإن الذي كـذبـت بـه قـريـش إنما هـو وحي مـن عـنـد الله تعالى، جـاء به الـروح الأمين جبريـل عليه السلام، أعـظـم الملائكة الـذي اخـتاره الله تعالى مـن بـيـن سائـر المـلائكـة رســولا إلى أنـبـيـائه ورسـله مـن الـبـشـر، ونـزل به عـلى قـلـب النبي محمـد (صلى الله عـلـيـه وسـلم)، الـذي اخـتاره مـن بـيـن الـبـشـر لـيـكـون آخـر الأنـبـيـاء وخـاتـم الأنـبـياء والـرسـل، وفي هـذا إشـارة لما سـيأتـيـنا بـيـانه في قـوله تعالى:{أفـرأيـتـم الـلات والعـزى ومـناة الثالثة الأخـرى}، (النجـم 19/20).
ومـراد الله تعالى مـن هـذا أن يـبـين لهـم أن الأسـس الأصلـية للـدين والقـواعـد المـتـينة التي بني عـلـيـها، إنما جـاءت عـلى لـسان أفـضل الخـلـق أجـمعــين، محمـد بن عـبـد الله الـذي كـنـتـم تـلـقـبـونه بالصادق الأمـين، بتعـلـيـم مـن جـبريـل ـ عـلـيـه السلام ـ الشـديـد الـقـوى ذي المـرة بأمـر مـن العـزيـز الحـكـيـم رب العـالمـين.
فـمـن أيـن جـاءكـم ديـنـكم الـذي يأمـركـم أن تعـبـدوا الأصـنام، وتـرجـوا منها النـفـع وتخـشـوا منها الضـر، وتـقـربـوا إلـيـهـا الـقـرابـيـن؟ ما أساسه؟ وما أصله؟، هـذا وإنه لا بـد مـن الإتـيان (في بـداية الأمـر) بالحجـة الـدامغـة التي تـلـزم المشـركـين الحجـة، وتـدحـض شـبهـهـم وتـبـطـل أوهامهـم، وتـقـتـلـع أديانهـم مـن جـذورها فـلا تـبـقـي لها عـلى شيء، والـدلـيـل عـلى هـذا التعـبـير بالـتـعـلـيـم في قـوله تعالى:{عـلمه شـديـد القـوى} هـذا ما يـنـقـدح في الـذهـن ويـتـمـكـن فـيه.
أولا: يـكـون المـراد أولا وبالـذات هـو ذلك الـتـلـقـين الـذي كان يـلـقـن جـبريـل ـ عـلـيه السـلام ـ الـنـبي (صلى الله عـلـيـه وسـلـم)، في غار حراء لما جاءه وقال له: اقـرأ، وقال: ما أنا بـقارئ، فـضـمه ضـمة شـديـدة حـتى قال النبي (صلى الله عـلـيـه وسـلـم): ظـننـتها المنـية وكـرر معـه تـلك العـملـية المـرة الثانية والثالثة، ثـم قال له في الآخـرة: {اقـرأ باسم ربـك الـذي خـلـق} تـلك هـي لحـظات التعـلـيـم والـتـلـقـين ولا نـجـد شـيئا تنـطـبـق عـلـيـه كلمة التعـلـيـم غـير هـذه الحالة، ولا سـيـما في باب الاحـتجـاج عـلى المشـركـين، وكـون ديانـتـهـم كلها مـبـنـية عـلى أوهـام وأساطـير لـيـس لها أصـل أبـدا، ولـن يجـد المشـركـون لأنفـسهــم حـالة مـثـل هـذه الحـالة مـن التعـلـيـم التي نـزل فـيـها جـبريـل عـلـيـه السلام عـلى قـلـب النبي (صلى الله عـلـيه وسـلم)، التي قال فـيها الله تعالى:{عـلمه شـديـد القـوى ذو مـرة}.
فـفي أي وقـت يكون هـذا الـتـعـلـيـم إذا لـم يـكـن في مـبـدأ العـهـد وأول الأمـر، وهـذا مـن الأدلة التي تـدل عـلى أن رؤية النبي (صلى الله عـليه وسـلم) لـجـبريـل ـ عـلـيه السـلام ـ كانت في بـدء الـوحي في غـار حـراء ، وغـار حـراء في الأرض.
والله تعالى يـقـول:{ولـقـد رآه نـزلـة أخـرى عـنـد سـدرة المنتهى}، لـيـلـة الإسـراء والمعـراج، فالمـراد بالتعـلـيـم إذن : ما حـدث أول مـرة في غـار حـراء لأن قـومه قـد يسـألـونه: يا محمـد لـقـد جـئـتـنا بــديـن جـديـد خـالـفـت بـه ديـن آبائـك وأجـدادك فـمـن جـاءك بهـذا الـدين ومـن علمك؟.
إذن: لا بد أن يـكـون هـذا التعـلـيـم في أول العـهـد، لا في وسـطه ولا في آخـره ويـبـدو أن الـفـاء في قـوله تعالى:{ فـأوحـى إلى عـبـده ما أوحى}، فـاء تـفـسـيرية، كـما يسمـيها الـنـحـويـون، ومـثـلها في قـوله تعالى:{فاسـتجـبنا لـه فـكـشـفـنا ما بـه مـن ضـر} (الأنبياء ـ 84)، فالـفاء في قـوله: {فـكـشـفـنا} تفـسر مـعـنى الاسـتجابة، كـذلك يـبـدو أن الـفـاء في قـوله تعالى:{فـأوحى إلى تعـبـده ما أوحى} تفـسير لـقـوله تعالى :{عـلمه شـديـد القـوى ذو مـرة}، عـلّـمه بالـوحي الـذي جـاءه مـن قـبـل الله تعالى ، ولا شـك ولا خـلاف بـيـن الـمـفـسـرين في أن الإبـهام في قـوله تعالى:{فـأوحى إلى عـبـده ما أوحى} يـراد به التعـظـيـم والتفخـيم، لأنه شيء بلغ مـن العظمة وعلو الشأن حدا لا يمكن أن يوصف ولا تحيط به كلمات قليلة.
وفي الـقـرآن الكـريـم وفي اللـغـة العـربـية أمثـلة كـثـيرة مـن هـذا الأسـلـوب، فالله تعالى يـقـول: مثلا في هلاك فرعـون وقومه:{ فاتبعهـم فرعون بجنوده فغـشيهم مـن الـيـم ما غـشيهـم} (طه ـ 78) بـدل أن يـصف تـلك الأمـواج الهـائلة المـتلاطـمة التي انـطـوت عـلـيـهـم مـن كل جـانـب كالجـبال، كـما قال الله في فـلك الـنـبـي نـوح عـلـيـه السلام:{وهي تجـري بهـم في مـوج كالجـبال} (هــود ـ 42)، كـذا ما قاله في بعـض الاسـتـفـهـامات مـثـل قـوله تعالى:{الحاقـة ما الحاقة وما أدراك ما الحـاقة} (الحاقـة1 ـ 2)، وأمـثال هـذا كـثـير في الـقـرآن الكـريـم، وهـذا ما أراده الله تعالى مـن قـوله:{فأوحـى إلى عـبـده ما أوحى}.
لـقـد تـكلـم المفـسـرون الـقـدامى مـنـذ عـهـد التابعــين ـ رضي الله عـنهـم ـ عـن هـذا الإبـهـام في قـوله تعالى:{ما أوحى}، فـقالـوا: مـا المـراد مـن ذلك هـل هـو غـيـب لا يجـوز لـنـا أن نخـوض فـيه ولا الـبحـث عـن مـراده؟، هـذا ما ذهـب إلـيـه بـعـض المفـسـرين ، فـقـالـو: هـذا إبـهام لم يفـسـره الله تعالى ولـم يشـرحه فـلـنـتركه عـلى إبهامه، ونحـن نـعـلم أنـه شيء فـخـم وعـظـيـم، ولـكـنـنا لا نـتكـلـم في تفـصـيـله، وقال آخـرون: ومـنهـم التابعي المشهـور سـعـيـد بن جـبـير ـ رضي الله عـنه، وإن هـذا الإبـهام مـبين مـفـسـر، ويمـكـن بـيانه وتـفـسيره ، فانـطـلـق العـلـماء في تأويـل قـوله تعالى:{ما أوحـى}، فـقـالوا فـيه أقـوال عـديـدة.
سـعـيـد بن جـبـير بن هـشام أبو محمـد الإمام الحـافـظ المـقـرئ المفـسـر الشـهــير الكـوفي، وأصله مـن الحـبشة أحـد الأعـلام مـن خـيار التابعـين، روى عـن ابن عـباس وابن عـمـر وعائـشة رضي الله عـنهـم، له فـقـه مأثـور، وعـلـم غـزيـر، تـلـقى عـنه العـلـم خـلـق كـثـير، قـبـض عـلـيـه خـالـد الـقـسـري والي مـكـة وأرسـله إلى الحجاج بن يـوسـف فقتله بـواسـط سـنة 95 هـ، والناس في حـاجـة إلى عـلمه ـ (سـير أعـلام النبلاء ، تـرجـمة رقـم 116 جـ 4، ص321).
وقال بعـض المفـسرين: إن تفـسـيره غـير مـمنـوع ، ولـكـن لا يجـوز للإنسان أن يـقـطـع ، فإذا ذهـب أحـد إلى قـول ورآه صـوابا فـلا يجـوز له أن يـقـول: هــذا هـو الحـق لا مـريـة فـيه وغـيره باطـل، أو يـقـول: هـذا هـو مـراد الله قـطـعـا ، أما لـو ورد في هـذا شيء عـن النبي (صلى الله عـلـيـه وسـلـم) لـكان الحـق الـذي نـقـطـع به ، أما والحـال أنه لـم يـرد عـنه (صلى الله عـليه وسـلـم) شيء، وإنما هي تأويلات عـن بـعـض الصحابـة والتابعـين فـلا نـقـطـع بها.
وقال البعـض: إن مما أوحى الله تعالى إلى رسـوله (صلى الله عـلـيه وسـلـم) الصـلوات الخـمـس، وإذا كان هـذا فإن الآيـة إذن: تكون في لـيـلة الإسـراء والمعـراج، لا ليلة بدء الـوحي، لأن فـرض الصـلـوات الخـمس إنـما كان في لـيلة الإسـراء والمعـراج ، كما هـو مـعـلـوم ومـشهـور.
وقال البعـض: إن الله تعالى أوحى إلـيـه: ألـم أجـدك يتـيـما فآويـتـك، ألـم أجـدك ضـالا فـهـديـتـك ، ألـم أجـدك عـائـلا فأغـنيـتـك ، وكان هـذا قـبـل نـزول سـورة الضحى.
وقال البعـض: إن الله تعالى عـدد عـلـيـه الـنعـم التي أنـعـم بـهـا عـلـيـه كـقـوله تعالى: {ألـم نـشرح لـك صـدرك ، ووضعـنا عـنـك وزرك الـذي أنقـض ظـهـرك، ورفـعــنا لـك ذكـرك } الإنشـراح (1 ـ 3).
وقال البعـض: إن الله تعالى أوحـى إلـيـه: إن الجـنـة حـرام عـلى الأنـبيـاء حـتى تـدخـلها أنـت يا محمـد، وإنها حـرام عـلى جـميـع الأمـم حـتى تـدخـلها أمتـك إلى غــير ذلك مـن الأقـوال الأخـرى ، التي قـيـلـت في تفـسـير كلـمة: { ما أوحى}.
.. و للحـديث بـقـية.
