جذب العالم الجديد المهاجرين من شتى الأمم في الدنيا القديمة، فجاءوا مزيجا من ثقافات مختلفة ، ولبثوا أمدا طويلا على اتصال وثيق بأصولهم الأولى ، حتى لقد ظلت تيارات الفكر الأوروبي المختلفة تنساب إلى العالم الجديد غداة ظهورها . فكل صوت يرتفع في أوروبا كان له صداه في أميركا ، ولم ير الأميركيون في ذلك أول الأمر غضاضة ، لأنه إن كانت مقتضيات العقيدة الدينية قد حملتهم على الهجرة ، وان كانت مصالح الاقتصاد بعد ذلك قد أوجبت أن تحدد الهجرة ، فماذا يمنع أن تشترك الفروع مع اصولها في الفكر ، وان تتبادل معها الرأي والنظر , وتتقبل من ألوان التفكير كل ما تهتز به أوروبا على اختلاف مصادره وتعدد مذاهبه .

ثقافة جديدة
هناك اختلاف واضح بين ثقافات الشعوب في بلدانها الأصلية عن الثقافات التي وفد إليها سفراء من تلك الشعوب بدون سفارات بل بتأشيرات هجرة . ليحملوا معهم آمالا وآلاما وأحلاما مشروعة وغير مشروعة لكسب وتحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه في عالمهم القديم الذي لفظهم خارجه أو لفظوه هم بتحديات جمة ، فاكتظاظ العالم القديم بالسكان أدى لضياع الهوية الثقافية , فبات المهاجر يبحث عنها في المهجر , والهجرة للمجتمع الأميركي تختلف عن أنواع الهجرة الأخرى ، فالمهاجر رغم أنه يحمل ثقافته من موطنه إلا أنه إن كان يريد الاستمرار , فعليه تناسي تلك الثقافة , والامتزاج داخل المجتمع الأميركي ، فيكون عضواً فيه حتى لو كان انطوائيا كسمة شخصية تذوب فى خضم واقع البلد , فيحرص على صالح المجتمع , وكأنه ولد فيه, ويعمل على كل ما يضيف لعمله وللولايات المتحدة ، لأنه بدون تلك الثقافة ستكون أيامه معدودة بأميركا , فالمجتمع الأميركي في صميمه كثرة من أفراد لا جسم واحد ذو أعضاء ، غير أن تلك الكثرة ليست أشتاتا موزعة الأهواء متباينة النزعات بل هي كثرة تلتقي حياتها في عقد واحد يضمها دون أن تضيع فردية الحبة الواحدة بهذا الالتقاء , وعلى هذا الأساس يتم قبول الأفكار أو رفضها أو تعديلها , ولعل المهاجر إلى دنيا العالم الجديد بالغرب خاصة أميركا يلمس كيفية امتزاج الثقافات المتناقضة عن طريق السياسة الواحدة للبلد ، فالكل يعمل للكسب وتحقيق الرفاهية , أو على الأقل ضمان مستوى مناسب من الدخل ، وهناك تناغم واضح بين الحكومة والشعب وحتى الوافدين من الخارج , لأن الكل حريص على أن يشكل ناحية إيجابية تضيف للمجتمع قيمة مما يحفز على الإنتاج والابتكار والإبداع , وخلق الفرص من الكل للجزء والعكس , وينسي الوافدون مع الوقت ثقافات الازدحام , وانعدام القيمة الشخصية التى كانت بمواطنهم الفوضى غالبا , وتردي المسئولية الفردية والجماعية حيال المجتمع التى عانوا منها فى بلدانهم الأصلية , بعد أن صاروا في بيئة جديدة فريدة فى جوهرها , بيئة تفرض عليهم فكرا راقيا في التعامل مع الناس والحضارة الجديدة . واستلهم الأميركيون سياساتهم الاجتماعية من عدة مصادر خاصة من عصر التنوير لاكتساب معانى الحرية والاحتفاظ بثمرة العمل , والتماس العيش السعيد , وهي حقوق فطرية لم يهبها أحد أحدا لكنها تنتقص لدى شعوب العالم النامي الذى يئن فى فوضى وفساد وانعدام المسئولية . وللفلسفة الأميركية مصدر آخر لإلهام مواطني الولايات المتحدة , فقد انتقلت المجتمعات داخل أميركا من حافة الانهيار والتفتت إلى الوحدة رغم اختلاف الأيدلوجيات الثقافية والفكرية لكل ولاية ، والفلسفة الهيجلية انتقلت من انجلترا عن طريق شعرائها إلى الغرب وأميركا لكنها لم تكد تنتقل إلى أميركا حتى عدلت بما يتلاءم مع مجتمعات ولايتها الخمسين ، والفلسفة الهيجلية تقوم على أن كل فرد حقيقة قائمة بذاتها على الرغم من أنه إذ يشعر , وإذ يفكر بأحلام فردية , فإنما هو ينوب في ذلك عن الإنسانية جميعا . إن كان صادق الشعور والتفكير والتعبير ، وأخذ أبناء العالم الجديد أيضا فكرة الروح الكونية المطلقة لدمج الأفراد في الحياة بألوانها واختلافها . ولكن الصراع كان ولا يزال بين فكر المهاجرين والوافدين وبين سكان العالم الجديد القدامى والأصليين , حتى أن تلك الاختلافات باتت لغزا محيرا لكن تمثل تفاعلا جميلا يعطى للحياة رونقا وطعما , رغم رغبة الوافدين فى بلورة ثقافة معاصرة تجمع بين شتات الماضى وعولمة الحاضر والتطلع لحداثة المستقبل . وحسم ثقافة المهاجرين يشبه من يرمى لتوحيد الشتات , فتلك الفئات تشبه من يذوب بحثا عن كيفية صياغة عقله وفكره بتلوين عقله , وربما تكون الصدفة والقدر هما عامل الحسم لطريق الوافدين الراغبين فى طمس هويتهم بعد فقدانهم أوطانهم .

برجماتية فكرية
ظهرت في أواخر القرن الماضي , وامتدت بتأثيراتها على المجتمع الأميركي إلى الآن البراجماتية الثقافية والفكرية ، وهي فلسفة جاءت كثورة على التفكير المثالي الذي يباعد بين الفكر والعمل ، فجعلت الفكر والعمل وجهين لحقيقة واحدة ، إذ جعلت معنى الفكر هو نجاح تطبيقها ، وبهذا وصل الفكر الأميركي الخالص إلى فلسفة أميركية خالصة نشأة وطبعا ، فلئن كان الفلاسفة قبل ذلك يأخذون عن أوروبا ثم يعدلون ما يأخذونه بما يجعله ملائما لوجهة نظرهم ، فقد جاءت البراجماتية نباتا أميركيا بذورا وساقا وفروعا ، ولا غرابة إذن أن يعرف الفكر الأميركي الحديث عند العالم أجمع بالفلسفة البراجماتية التى تعبر عنه أصدق تعبير، فلما تحطمت الفلسفة المثالية التقليدية على أيدى البراجماتين تحطم معها التقليد الفلسفي كله ، الذي كان يربط الفيلسوف بنمط معين للتفكير , وهنا خرجت مذاهب واتجاهات جديدة لكنها وليدة تجارب فكرية ، لم يكن لها جلال التفكير التقليدي القديم ولكنها عوضت ذلك بروح علمية جديدة ، مالت بالفلسفة بالتشبه بالعلماء في طريقة معالجتهم لمشكلاتهم من حيث تعاون الباحثين علي معالجة الأزمات , وتضييق الخلافات والوصول بالقضايا نحو شاطئ الأمان . أما التفاعل الثقافي بين المهاجرين ومجتمعاتهم الجديدة , فهو شبه تفاعلية بين الماضي والحاضر لكن الأفكار المثالية والفلسفة الهيجيلية والبراجماتية كلها تصب في صالح كيفية تغيير الأفكار القديمة برؤية واعدة حول ثقافات وليدة تفاعلات أيدلوجية , هذه الثقافات تجمع بين الحرية والمواطنة والمسئولية من خلال معايير كيفية إيجاد دور للفرد في صياغة وصناعة المجتمع . ورؤية النقاد الأميركيين لمجتمعاتهم وتفاعلها مع الوافدين والمهاجرين تشبه روشتة الأطباء وتجارب العلماء حيث إنهم يرون ضرورة وضع كل في مكانه الصحيح باستخدام خطط ايدولوجية تقود نحو تصحيح المعوج وتذليل الصعاب ، وترغيب المهاجر في استمرار تجربته عن طريق حقبة مضيئة يعيشها وينبرى فيها بثقافة العالم الجديد، ومن خلال تطبيع عقول الوافدين بالأفكار القادرة على جعلهم يصمدون في رحلتهم في البحث عن مستقبل أفضل ، فالإنسان لو أراد أن يكون التغيير نابعا من نفسه سينتج , ولكن لو كان هناك من يؤازر ضميره مع غمسه في ثقافة جديدة تعيد إليه رؤية للحياة سيولد من جديد ، فأميركا عالم جديد لكنها ليست مستحيلا للعيش والعمل والابداع أو ضربا من ضروب الخيال , فهناك علماء أجانب يستشرقون في الشرق الأوسط والأدنى بحثا عن كنوز الفكر , وهناك مواهب تولد وتهاجر بعيدا عن مواطنها بحثا عن الفرص , وتبحث عن ملاذ لها عبر الثقافات والأفكار الأميركية . وهو ما جعل البعض يرون تمثال الحرية الأميركى ينطق بالرغبة فى احتضان كل مغامر وعالم ومهاجر وباحث عن فرصة للإبداع .