نذهب اليوم في رحلتنا التي نجوب من خلالها أعمال الفنانين التشكيليين العُمانيين إلى أبعاد متبدلة ومتطورة في لغة التشكيل وهي التي حركت الإبداع الفلسفي لهذه الفئة المتعاملة مع هذا اللون من الفن ، إنها لغة الفن التجريدي هذا الأسلوب الفني الذي وسع دائرة الإبداع للتشكيليين بما يمتلك من مساحة تعبيرية خصبة جعلت الكثيرين يقفون مذهولين أمام ما تقدمه هذه المدرسة الفنية من أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات والمرئيات في صورتها الطبيعية والواقعية إلى إبصار عالم آخر من الخيال الواسع المخزون داخل النفس البشرية، ونجد أن الفنان المتعاطي لهذا الأسلوب يتميز بالقدرة على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماماً قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي ، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر تظهر معها اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، إلا أنها في حقيقة الأمر تحمل في طياتها الكثير من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان خلال مسيرته الإبداعية.
وفي هذه الإطلالة الأسبوعية سنسلط النور على تجربة الفنان ياسر الضنكي أحد الشباب المثابرين في عطائه الفني في المشهد التشكيلي العماني وقد أمتعنا كثيراً بتجاربه الفنية الناجحة التي استوقفت الكثيرين بجمال أدائها وتناغم فكرها، وحصد معها العديد من الجوائز أثناء مشاركاته المحلية، وأستطيع أن أستشف من خلال عمله الماثل أمامنا بأن الضنكي يؤمن أن الفن ليس دائماً مرآة أو محاكاة بل غالباً ما تدخل انعكاسات الواقع مع المتخيل في النفس الإنسانية ليُعاد معها تركيب الشكل والموضوع بعد تحليله بمنطق ذاتي متحرر من القيود الواقعية، ويتم كل ذلك من خارج المألوف والواقع الموضوعي، فهو ومن خلال العنوان الذي قدمه لعمله، نستلهم كيف صور لنا الإثارة الوجدانية لأحاديث جسده الأخيرة ، وهي سلسلة أحاديث عكف الفنان على تقديمها في أطروحات فنية متتالية أولاً بأول، ويبدو معها أن جسده يحمل الكثير من الحديث الذي يبوح به عبر أشكال وألوان، مختصراً لغة الكلام التي قد يطول شرحها لو نطقت به شفتاه، وعند إمعان النظر في حركات الخطوط في هذا العمل نجد فيها استمرارية على السطح وتتحرك معه صعوداً وهبوطاً والتفافاً في زوايا حادة وأخرى مقوسة أظهرت عبر حركتها الكثير من الأشكال الهندسية التي قد ترمز ــ عند إمعان النظر إليها ــ إلى أشياء يمكن تقريبها على شكل أقنعة أو أسماك أو وجوه بشرية أو حيوانية أو طيور أو شوارع لمدن ...إلخ، إلا أننا قد نتفق جميعاً إلى أنها تنقلنا بصرياً إلى ضجة مكتومة في النفس محملة بزوابع وتيارات مخنوقة وتداخلات عنيفة زاد من حدتها سماكة الخطوط السوداء التي سَوَّرَت العناصر الشكلية أثناء ارتداد الخطوط في مختلف الاتجاهات على مسطح اللوحة. وترك الضنكي مساحة مفتوحة في أعلى العمل كمخرج تتنفس منه أحاديثه لتمنح جسده الراحة والسكينة من هذه الإرهاصات المتراكبة على بعضها . أما من ناحية اللون فقد تعاطى الفنان ألوانا محدودة كررها بشكل إيقاعي جميل في العمل حملت هي الأخرى ارتداداً بصرياً يثير لدينا إحساساً بأن كل هذه الضجة لها أصول واحدة في نفسه متشابهه ومتداخلة في حديثه الذي يبوح به.
وأخيراً فإن اللغة البصرية للتجريد هذا هو ديدنها، تحمل في داخلها رموزا تشكلت من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ، تبدو في شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم وحديث الروح، ورحيق من أشياء تخترق حدود الأزمنة والأمكنة ووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات كما تصورها نفس الفنان في لحظات إبداعه، على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز والاختزال الذي تتسور به.

عبدالكريم الميمني
[email protected]