مما ينبغي أن يشغل بال اللغويين العرب اختلاف المسمّيات للشيء الواحد من بلد عربي إلى آخر وبخاصّة في لغة الكتابة الأدبية ، فهذه المسمّيات ـ إذا ما كثرت ـ ستؤدّي إلى نشوء لهجات قُطْرية أو محليّة تكون مدعاة إلى الالتباس والشعور بنوع من الغربة ، أو العزلة القومية في الوطن العربي ، إن لم نقل: قد تؤدي إلى تنامي تلك اللهجات حتى تصبح ـ مع الزمن ـ لغات رسمية مستقلة ، ثم تنسى اللغة الأم ، كما حدث للغة اللاتينية التي انحسرت لتحلّ محلّها فروع أو لهجات منها تنامت ثم استقلت متمثّلة باللغة الفرنسية والبرتغالية والإيطالية والاسبانية .....
نحن نسمع اليوم مثلاً ألفاظاً وتسميات مختلفة للنقود في العربية تبعث على الاستغراب وتدفع إلى التساؤل عن سبب تنوّعها من بلد عربي إلى آخر كالرِّيال ، والدِّرهم ، والدِّينار ، واللّيرة ، والجنيه ، والقرش ، والفلس ، والفرنك ... إلى ما هنالك من أسماء ... وحتى في التسمية العامة للقطع المعدنية الصغيرة من تلك النقود هناك خلاف أيضاً ، فهي في دول الخليج العربي (صرافة) ، وفي سوريا والأردن (فراطة) ، وفي لبنان (فرافير) ، وفي مصر (فَكَّة) ، وفي العراق (خُرْدَة) ، وفي ليبيا (رقاق). وأصل هذه التسميات هنا عربي المادة ما عدا (خُرْدَة). أما تسمية النقود بعامة فهي أجنبية دخيلة من لغات أخرى ، بعضها قديم في العربية كالدِّينار والدِّرهم من الفارسية فقد نصّ على ذلك الجواليقي في كتابه المعرّب حين قال: (والدِّينار: فارسيّ مُعرَّب. وأصله دِنَّار ، وهو وإن كان معرَّباً فليس تعرف له العرب اسماً غير الدِّينار فقد صار كالعربي. ولذلك ذكره الله تعالى في كتابه ..... ودِرْهَم: معرَّب. وقد تكلّمت به العرب قديماً ). وبعضها حديث كالرِّيال، والجنيه ، والقرش ، والفرنك ، والشلن ، والليرة من اللغات الأوروبية ، لكن ليس هنا بيت القصيد كما يقال ، إنما هو تساؤلنا عمّا يمنع من توحيد هذه التسميات في العربية ، وارتضاء اسم عام لها كما ارتضيت لفظة ( النقود ) التي تبدو وحدها عربية في هذا الميدان. وهنا ربما خطر في بال المرء أن يتساءل أيضاً من أين جاءت هذه اللفظة أصلاً؟ وكيف استعيرت لهذا الغرض؟ حتى يرى كيف يمكن أن تؤخذ من العربية معان وتسميات تتفق وحاجات الحداثة والتطوّر على تنوّعها.
إن النَّقَد في الأصل العربي يعني: صِغار الغنم ، والنَّقَد في الضِّرْس: تكسُّره ، وكذلك النَّقَد في حافر الفرس: تقشُّره ، وحافر نَقَد: متقشِّر ، ففي معجم الصحاح للجوهري ( نَقَدْتُه الدراهم ونَقَدْتُ له الدراهم أي أعطيته فانتقدها أي قبضها. ونَقَدْت الدراهم وانْتَقَدْتُها: إذا أخرجت منها الزَّيْف. والنَّقَد بالتحريك: جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه ، الواحدة نَقَدَة. والنَّقَد أيضاً: تقشُّر في الحافر وتآكل في الأسنان). وفي الإجمال يدلّ المعنى أصلاً على إبراز شيء أو بروزه أو كشف حقيقته. وتقول العرب: مازال فلان يَنْقُدُ الشيء: إذا لم يزل ينظر إليه. ومن الباب قالوا: نَقَدَ الدَّراهم ، أي أن يكشف عن حالها في جودتها أو غير ذلك. ثم تطوّر هذا المفهوم من العمل أو المصدر حتى صار يعني اسماً يطلق على الدراهم نفسها اليوم ، ومن هنا صاروا يقولون: أخذ الثمن نَقْداً أي من دون إرجاء أو مقابل للسلعة ، ثم استعير هذا المعنى ليدلّ على النظر في أمور أخرى ، أو اختبارها لمعرفة الزائف من الحقيقي أو الجيّد فيها بالتأمّل الفكري إلى جانب النظر ، فكان من ذلك نشأة مصطلح النقد في الثقافة عامة ، الذي أصبح الآن علماً مستقلاً يتخصّص فيه النقاد في مختلف ألوان الفنون والأبحاث ، كما أصبح حديثاً مادة أو موضوعاً قائماً بذاته في بعض أقسام الجامعات.
وما استعارة هذا المصطلح للنقد والنقود من المعنى العربي الحسي القديم من اختراع المحدثين ، إنما هو مصطلح عرفه أهل العربية القدماء بهذه الدلالة واستخدموه ، ولعل أبرز شاهد على ذلك كتاب (البديع في نقد الشعر) لأسامة بن منقذ من القرن الخامس الهجري.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]