كُنّا قد تابعنا في العدد السابق وجوه الأمهات الآتي رسمهن سماء عيسى، في المقاطع( 1،2،3،4) من نصّه شرفات على أرواح أمهاتنا، أنصتنا لهمس أرواحهن ونواحهن الجنائزي، وفي هذا العدد نواصل تتبع الأرواح الهائمة في عوالم النص السردي وذاكرة الأرض المائية، عبر بقيّة المقاطع ..
(5)
تتلاشى الأبعاد وتتداخل الاتجاهات، حتى تغدوا الفروقات بين المتضادات غير مؤثرة، إن فقدان الأم هو فقدان لقيمة الحياة، فقدان الشعور بالأشياء،( هكذا في ألم فقدتكِ بعد تطواف عمر طويل، لمحة واحدة فقط، نظرة خاطفة فقط، كانت تفضي إلى ما هو عذب، وكل ما هو مليء بالألم وبالهجر وبالفراق)*. قبل اللحظة الفاصلة بين الحقيقة والوهم، بين الحياة والموت، تمرّر الذاكرة صورا قديمة ألتقطتها الطفولة، صورا أخرى للمكان الذي هبطت حوّاء فيه، تمرُّ أشعة الشمس من خلال ثقوب الذاكرة في رجاء موعد لا يأتي،( جلست أنتظر ظهوركِ البهي الصامت الجميل، أنتظر ما يفضي بي إلى الحب، وما يفضي بي إلى الموت)*، ولكنه الفراق الأبدي وكل هذا الإنتظار ما هو إلا خديعة صنعتها الذاكرة، ذاكرة الطفولة الأولى، والصرخة الأولى. لن يأتي أحد، حتى طيف الأم ستأكله ظلال المساء المتوحشة،( كل تجوالي الأليم ما كان ليحدثني عن فراق أبدي)*، يصبح الفراق الأبدي هو الحقيقة التي تصتدم بها ذاكرة الطفولة، يرتفع الجدار العازل بين الذاكرة وماضيها الموغل في الروح وبين الخيال وشطحاته الميتافيزيقية، لتصبح الصحراء هي أرض الميعاد، الصحراء بما ترمز إليه من وحدة وعزلة وانقطاع، ( لأنني من الصحراء أتيت والى الصحراء أعود، وفي الصحراء يكون موتي، وقبري هناك ينتظرني، تنتظرني الرمال، وينتظرني المجهول، وينتظرني النكران)*..
(6)
في هذا المقطع سينساق القارئ خلف سرد شعري مختلف، فالأم تتوارى خلف الضمائر دون تصريح بها، هي تتبع بنظراتها الحادة ذلك المربوط على الراحلة التي تجوب الأرض ودمه ينزف بإنتظار الموت،( وكل من نظر إليه أنكره، ولم يفش الملك سرّه لأحد، سوى نجم في السماء، كان يتبع الراحلة، أينما تمضي وتسير)*. كما يُربَطُّ النازف بالراحلة يربِطُ سماء عيسى روح الأم بروح هذا النازف المنتظر للحظة الموت،( كان أنينه يصدر صوتا عذبا تارةً كخرير المياه، ومرّاً تارةً كنواح الحمام)*. تتعلّق الأم بالموت الحاضر في جسد الراحل نحو النهاية، تتمنى التوحّد معه والالتصاق به، يصوّر سماء عيسى لنا العلاقة الأبدية بين الأم والموت، بين الأمومة والدم، وهو يرسم في أذهاننا بلغته الشعرية المجازية لحظات الولادة بألمها ونزيفها وصراخها وعذابها؛ أنها كذلك حياة قادمة. وكأنه يوجّه لنا سؤاله الوجودي، ما علاقة الأم بالموت؟
(7)
يظهر أن المقطع السابع هو تكملة للمقطع الخامس، فالانتظار الذي كان سمة المقطع الخامس ينتهي ببداية المقطع السابع بكلمة تربط بين المقطعين، الكلمة هي ( لكنني)، وهي استدراك يثبت اختلاف حكم ما يأتي بعدها عن ما قبلها، فالانتظار الذي انتهى بتفكير المنتظر بالعودة إلى الصحراء يتغيّر فجأة؛ حينما تطلُّ الأم من خلف ضباب الموت( لكنني التقيت عند النبع بأمي، وحيدة تحملُ جرةً كانت عيناها – كالعادة- دامعتين من الحزن، وكان وهج الحياة قد انطفأ بقلبها منذ أمد بعيد)*. المقطع السابع يضعنا أمام مشهد سينمائي مكتمل، فالمكان عند النبع والوقت لحظات الفجر، والشخصيات هي الأم والابن. تبدأ عدسة سماء عيسى بالتركيز على لحظة لقاء الابن بامّه ومن ثم حركة الابن الذي يتخبأ خلف طلل متداع عند النبع. بعدها يتّسع إطار العدسة، ليحتوي مشهد الأم وهي ترحل والابن وهو يتوارى خلف الطلل( كان الوقت فجرا، لم اتبعها، خوفا أن لا أعود إلى القرية ثانية، هي أيضا ادركت ذلك ورغبت ان لا أرحل خلفها، لكنها رمقتني بنظرة وداع مع رحيلها)*. يستحضر سماء عيسى روح الأم كما يستحضر من خلالها ذاكرة الأمهات جميعا، فمشهد الأم وهي تحمل الجرّة يستدعي في اذهاننا صور الأمهات العمانيات قبل السبعينيات بزيّهن الجميل وحزنهن الريفي الفاتن، كما يفتح سماء عيسى بهذا المشهد السينمائي نافذة تطلّ على غابة من الأسئلة الوجودية، فلمن تحمل الأم الماء؟ وهل يفعل الأموات في الموت ما يفعلونه في الحياة؟ أم هل الموت هو فعل مستمر لا يتوقف بتوقف النبض؟ ولماذا تكون الذاكرة وفيّة لهذه المشاهد الأمومية الحميمة؟ لاشك أن النص يتقاطع كثيرا مع الأسطورة العمانية، حيث يصبح حضور الميّت حقيقة لا تخطؤها الروح. غير أن العودة الجسدية الدائمة إلى الحياة لم يُكتب لها أن تحدث بعد..!!، ( وحيدةً رحلت ولم اشأ أن أتبعها، مع انني كنت مدركا، عدم عودتها ثانية، لأن أرواح الموتى، تحل في البدن، مرة فقط بعد الموت، ومرة اخرى بعد بعثها)*.

(8)
يختلف هذا المقطع عن ما سبقه من مقاطع سردية كونه مشحون بالدلالات التاريخية، سنتعرّف خلاله على أماكن وأحداث واسماء لها ابعادها التاريخية والسياسية في تاريخ عمان القريب ومن ضمنها( مطرح، وادي محرم، عزان بن قيس، سالم بن سيف الفرعي) ، سنشعر وكأن سماء عيسى يروي سيرته الخاصة، كما أن الأمهات في هذا المقطع ما زلن على قيد الحياة، فهن المنكوبات بالموت والمرض، وهنّ من يموت كل يوم كمدا وحزنا على ابناءهن الأموات ( نادرا ما تبتسم صبايا الريف العماني، لذلك كنت أرى الموت وأخاف اقترابه منكِ، وعندما تحدثت إليك عنه في تلك الليالي المظلمة، نظرتِ إليَّ هادئة وكانت عيناكِ تبحلقان في فراغ بعيد)*. إن الموت هو الثيمة التي نسج عليها الكاتب سرده الشعري، وهذا الموت يستدعي أرواح أمهات عديدات. في المقطع الثامن سنتعرّف على الأم المرعوبة على ابنها بسبب مرضه بالملاريا، أو ابنها الآخر البعيد عنها والذي لا تصلها اخباره، ويزداد هذا الرعب كلما حضر الموت قريبا من منزلهم أو تغوّل في أحاديثهم،( حتى عندما فجأة علا صراخ القادمين ليلاَ وهم يحملون جثة ميت إلى القرية، وكنا ننام صيفا فوق السجم أنتابكِ خوف من أن يكون ابنك البكر البعيد عن عينيك هو الميت)*. إن روح الأم معجونة بالأرض، بالمكان وما يشي به من قصص وقصائد، فحينما نذكر الأم فإننا حينها نتلمّس المكان بكل تفاصيله وذكرياته، نعود بالزمن لأقرب حادثة تستقرّ في وجداننا، غير أن سماء عيسى يجعل هذا الوجدان وجدانا مشتركا بين الأرض والناس. هو وجدان الحزن والفقد والفجيعة قد شكّله المرض والموت واحتفظت به الأرض،( وجدت نفسي وحيدا وسط مقبرة خصصت لضحايا الأوبئة، كان المدفونون أغلبهم من الأطفال وحينما عدت متهالكا إلى المنزل وجدت من يأخذني إلى مطرح للعلاج)*. حينما نذكر مطرح فأننا نفتح مندوس الذكريات العماني، لنجد صورا قديمة لمستشفى الرحمة أول مستشفى في عمان، ونذكر كذلك طبيبه الشهير طومس؛ وكما ذكرنا فإن المقطع الثامن يسرد ذاكرة المكان عبر همسات أرواح امهاتنا، عبر معانتهن وعذابهن، ( عيناك المليئتان بالدمع المحبوس في الأعماق القاسم المشترك بين ما مضى وما تبقى، فقدتِ النظر كاملا بإحداها، وبقى نور بصيص تبصرين به من العين الأخرى)*. ينتقل سماء عيسى من سرد ذكريات الأم التي فقدت النظر في إحدى عينيها إلى سرد ذكريات العمّه التي ولدت وهي عوراء، غير أن هذا العمى لم يحجب عنها صور الموت القاتمة، وهي التي عاشت وفاة أثنين من ابناءها، الأول مات بعيدا عنها ولم تنظر جثته ، ولم تعرف قبره المجهول، والآخر تم اعدامه بواسطة السلطة آنذاك،( كانت المرأة قد سكنت مسقط قادمة من نزوى، كذلك زوجها الفقيه الذي تمتد جذوره الى هناك أيضا، إلى حلة العقر تحديدا، هناك حيث يختبئ الحلم)*. غير أن الهرب لم يشفِ الروح ولم يمح ذاكرة الفجيعة، فالأم تموت رعبا في حالة مرض ابنها وتموت كمدا بعدما يموت، وحتى لحظات احتضارها وهي في النزع الأخير فأن حادثة موت ابناءها هي الدعاء الذي تودّع به الحياة، ( رحلت إليها قبيل موتها بأيام، حدثتها وهي على فراش الموت، لقد مات ابنك رافع الرأس كعزّان بن قيس ودفن كمجهول مثله، لقد عاد الجمل خاويا من دونه، كسالم بن سيف الفرعي، ولكن يا بني ها أنا أموت وحيدة، ولا قبور لأبنائي أدفن بجوارها)*
(9)

في المقطع الأخير من نص( شرفة على أرواح أمهاتنا) يختتم سماء عيسى نصه بمقطع إلى ناصر المنجي، ينضوي على وصايا أم لإبنها ، فإن كان مرض الأبناء هو فجيعة الأمهات، فإن تيههم وشتاتهم النهائي هو ألمهن الأبدي،( يقودكم التيه نحو الأطلال المهجورة والمنافي الجبلية والصحراء لا تسلمكم إلا إلى صحراء أخرى)*. في المقطع التاسع يتداخل الموت مع الحياة بشكل مدهش، فالأم توصّي ابنها أن يجأ إلى المقبرة لينام حتى تطمئن عليه،( لأن الملائكة تنام بها ايضا)*، وهناك سبب آخر وهو الموت، فابنها الرضيع يرقد هناك بعدما سيّحه الفلج ( لأن أخاك الذي سيّحه الفلج أمام عينيك وعيني وهو رضيع ينام بها أيضا)*، تصبح المقبرة وهي المكان الموحش المخيف في ذاكرة الناس الجمعية، أرضا آمنة للأم التي تركت ولدها ينام فيها، إنها أرض الملائكة والأطفال وما على التائه إلا أن يغمض عينيه وينام بهدوء وسكينة بين قبور الأحباب. ما أعظم هذه الأم المباركة التي تجعل من الوحشة مكانا مؤنسا، ومن التيه حالة سكينة واطمئنان. تستمر وصايا الأم لابنها في رحلته الوجودية القلقة، تحاول ترويض أوابد الروح المتمردة بالعودة إلى الأم الكبرى، بالتماهي مع الطبيعة والانصهار فيها، فهي تُربت على كتفيه وتمسّد شعر رأسه قائلة:( وإن ابتعدت وكنت تجول في الأودية، نم تحت اشجار السمر والغاف والشوع، إنها أشجار مباركة يا بني، والملائكة تستظل بها أيضا، ألا ترى اشجار السمر صغيرة هادئة حانيةً كالاطفال، تثمر القرموص غذاء أغنامنا في مرارة الهجير، والغاف الذي يثمر البرم الذي يمتص رحيقه نحل الجيال، والشوع الذي طالما أعادت ازراقه الحياة لِفلْتْ العظام وكسر الضلوع)*. إن علاقة الأم بالماء هي علاقة تبدا من النطفة والرحم، من النشأة الأولى، لذا فإن الأم هي من تحمل الجرّة وهي من تحمل الحليب وهي من تحمل الحياة، وهي كذلك من تحمل الموت في روحها المنهكة، غير أنها ما تزال توصّي ابنها بالماء الذي هو أملها في بقاء ابنها حيّا،( لا تنس قبل نومك شرب الماء، مثلما كنت اسقيه إياك وانت طفل، لأن ملك الموت يبتعد عن الأرواح المائية، هو لصيق ورديف للجفاف والقحط والمحل والخراب)*. يتقمّص سماء عيسى روح أم صديقه ناصرالمنجي، وهو بذلك يتقمّص أرواح كل الأمهات، تتسع لغة المجاز وتصبح الفكرة أكثر عمقا وفتنة، وفي هذا السرد الشاعري المنساب كماء الفلج يستدعي التدفق الشعوري كل الاشياء القريبة، ليتدخل الموت المنسلّ كغول رملي في وصايا الأم،( في هذه التيه النهائي الذي وضعتك الأقدار به، لا تنس بعد رحيلي عن الأرض أختك شيخه، هي وصخلة المنزل تكبران معا)*، حينما يحضر الموت تحضر معه الريح والفناء ويصبح العمر هو ما تحتفظ به الذاكرة من أحداث، الذاكرة التي تصبح ارجوحة بين الزمن ومكان الحادثة، أرجوحه تحركها ريح الموت والفناء من الطفولة إلى رحلة التيه ( والحق أنني لا أعرف إلى أين يقودك هذا التيه يا بني؟)*، التيه الذي يعشقه المسافر، هو التيه الذي ألتهمت صحراؤه الرجال، تيه الموت والقدر المحتوم( التائه في الصحراء كالعاشق لا يصل إلى قرار أو مسكن، تقر به عيناه إلا ميّتا)، ما تخشاه الأم هو هذه النهائة، نهاية الحلم والأمل، أن يتوقف الأثر في وسط الصحراء، فالصحراء سماء التيه القاحلة، هكذا فعلت برجال أمير هرمز( جاؤوا غزاة إلى ظفار بحرا، هناك نهبوا وقتلوا وسلبوا خلقا كثيرا، ثمَّ عندما قرروا العودة الى وطنهم هرمز، حملوا متاعهم بحرا، واختاروا طريق الصحراء من ظفار إلى قلهات، وفي الطريق بلعتهم الرمال يا بني)*

ملاحظة:
المقاطع التي ورد في آخرها ( * ) تم تضمينها من مجموعة الشاعر سماء عيسى (شرفة على أرواح أمهاتنا)..

حمد الخروصي
twitter: @hamed_alkharusi