قطعت السلطنة شوطا كبيرا في المحافظة على التراث المادي و المتمثل في القلاع و الحصون و الافلاج و الحرف التقليدية, و غير المادي من فنون شعبية تقليدية مغناه و مؤداه, و توثيقهما في المؤسسات الدولية المختصة. و لكن السلطنة تتمتع بتراث من نوع آخر يندر في كثير من دول المنطقة العربية, ألا و هو الارث اللغوي المتمثل في اللغات التي يتحدث بها الكثير من العمانيين.
و هذا التراث كان نتيجة لعدة عوامل اهمها الموقع الاستراتيجي الذي حبا الله به عمان فأحاطها بمجموعة من الدول الغنية من الناحية الثقافية و الحضارية (الهند و الصين و ايران و باكستان و شرق افريقيا و القرن الافريقي و اليمن و مصر الفرعونية و سوريا الفينيقية و العراق السومرية و غيرها من اجزاء شبه الجزيرة العربية). و من هذه العوامل أيضا طبيعة الانسان العماني المعروف بتسامحه و تقبله لما هو جديد و مفيد و احترامه للآخر و استعداده للتعايش السلمي مع الثقافات الاخرى. و هذا ما ادى الى علاقات تجارية و ثقافية مع هذه البلدان نتج عنها رحلات للعمانيين لهذه البلدان و رحلات لسكان هذه البلدان الى عمان (فضلا عن دخول اجزاء من بعض هذه البلدان في اقاليم الامبراطورية العمانية).
ادت هذه العلاقات و الرحلات الى استقرار بعض سكان هذه البلدان و المنتمون الى قوميات مختلفة في السلطنة, ما يعكس ما لمسوه من تسامح من الشعب العماني. و ما يهمنا هنا هو ان هؤلاء المستوطنين بانتمائهم لقوميات مختلفة قاموا من خلال تعاملاتهم المختلفة مع العمانيين بنقل تجاربهم الانسانية و تراثهم الثقافي و الحضاري الى عمان, و من ذلك التراث بعض اللغات التي تزخر بها عمان اليوم, ما يعكس تفرد التجربة الحضارية و الانسانية العمانية. و من هذه اللغات البلوشية و الفارسية و العجمية و الزدجالية و اللواتية (أو الكوجكية) و السواحيلية.
و من هذه اللغات ما كان موجودا في عمان اصلا, مثل اللغات الجنوبية الحديثة, و هي الجبالية (أو الشحرية) و المهرية و البطحرية و الحرسوسية و الهوبيوت, و اللغة الكمزارية الموجودة في محافظة مسندم.
و أود الاشارة هنا الى انه و على الرغم من ان كثيرا من هذه اللغات موجودة في دول اخرى فانه و نتيجة لوجودها في دولة اخرى كعمان و التقائها بغيرها من اللغات اهمها العربية, فان من الطبيعي ان تختلف في عمان و لو من حيث المفردات عما هي عليه في دولها الام. و في هذا السياق تقول الدكتورة خالصة الاغبرية من جامعة السلطان قابوس ان "وجود جميع تلك اللغات مجتمعة في عمان ادى بلا شك الى التنوع اللغوي و الاثراء الحضاري, حيث تناغمت اللغات مع اللغة العربية العمانية و افرزت مفردات جديدة اضفت روحا جديدة للغة العربية المستخدمة في عمان".
و في شأن اللغات الجنوبية الحديثة يكتب البروفيسور كلايف هولز من جامعة اكسفورد بان اللغة المهرية يتحدث بها في عمان بضعة ألاف فقط. وتقول الدكتورة آندا هوفستيد ان عدد متحدثي هذه اللغة في عمان و اليمن يصل الى مائة الف. أما بالنسبة للغة الجبالية, فتقول الدكتورة هوفستيد ان عدد متحدثيها يقدر بثلاثين الى خمسين الفا. ويقول البروفيسور هولز ان اللغة الحرسوسية يتحدث بها بضع مئات فقط. و تكتب الدكتورة هوفستيد ان عدد متحدثي اللغة الحرسوسية يصل الى حوالي 600 متحدث. أما بالنسبة للغة البطحرية فتقول الدكتورة هوفستيد ان عدد متحدثيها يصل الى 300. و تقول كذلك ان عدد متحدثي لغة الهوبيوت يقدر بأقل من 100. و تصدق هذه الارقام الى حد كبير في شأن متحدثي معظم اللغات الاخرى في عمان. و ذلك اذا اخذنا بعين الاعتبار حقيقة توجه الاجيال الحالية الى اللغة العربية كونها لغة الهوية و الدين والى اللغة الانجليزية كونها لغة التعلم و التوظيف والى اللغتين معا كونهما وسيلة التواصل بين متحدثي اللغات الاخرى في عمان.
ان في الاختفاء التدريجي لهذه اللغات خسارة كبيرة من الناحية الثقافية و العلمية. و ذلك لان كل لغة تحكي قصة فريدة عن واقع التقاء متحدثي هذه اللغات بالشعب العماني و البيئة العمانية و اللغة العربية. و هو ما ادى الى وجود بلد بهذا الثراء اللغوي و الثقافي. و لذلك فانه يتوجب علينا المحافظة على هذه اللغات ليس فقط لأنها مهمة لمتحدثي هذه اللغات و ثقافاتهم و تراثهم, و لكن لأنها مهمة للمعرفة الانسانية فيما يختص بالبحوث في علم الانسان و الحضارات (الانثروبولوجيا) و التاريخ, و كذلك لأنها مهمة للبحوث في علوم اللغويات النظرية و التي يقوم معظمها على فرضية ان جميع اللغات الانسانية مشتركة في قواعدها و اصولها اللغوية. و كذلك تكمن اهمية المحافظة على هذه اللغات في تعريف الاجيال العمانية القادمة بان عمان استطاعت بتسامح اهلها و انفتاحهم على الغير ان تصبح واحة لثقافات و لغات مختلفة.
و في ما يتعلق بالحفاظ على هذه اللغات فان دول العالم تتبع طرقا مختلفة لحفظ ما بات يعرف ب "لغات الاقليات". من هذه الطرق ادخال هذه اللغات في المناهج الدراسية لأبناء متحدثيها, و لكن هذه الطريقة لا تتوافق مع مبادئ و تطلعات و سياسات مجتمع عربي يجمع مواطنوه و مسئولوه على ان اللغة الوطنية الوحيدة الجديرة بالدخول في المناهج الدراسية هي اللغة العربية. و لكن هناك طرقا اخرى اقل اثارة للجدل, منها تشجيع متحدثي هذه اللغات على تعليمها لأبنائهم و عدم التفريط فيها. و منها, و هو ما نوصي به, طرح هذه اللغات كمقررات اختيارية في الجامعات الحكومية لتدرس للطلبة المهتمين من غير متحدثيها و كذلك للمهتمين من الباحثين في دراسات اللغة و الادب و علم الانسان و علم الاجتماع, كونها من المعالم الرئيسية للبلد, مثلها مثل الكثير من مظاهر التراث غير المادي كالعازي و الهبوت, على ان يقوم بتدريسها اساتذة الجامعة او اي مدرسين ممن يجيدونها كلغة ام.
و من طرق الحفاظ على هذه اللغات كذلك, و هو ما نوصي به ايضا, ان يطلق مشروع وطني لحفظ اللغات من الاندثار يقوم على استقدام خبراء لغويين متخصصين في وصف و توثيق اللغات و توظيفهم لهذا الغرض, على ان يقوموا بالاقامة في المجتمعات الاصلية لهذه اللغات لكي يقوموا بوصفها وصفا دقيقا و توثيق جميع خصائصها اللغوية (النحوية و الصرفية و الاشتقاقية و الصوتية و البلاغية و الدلالية و غيرها), و توفير هذه المعلومات و البيانات للباحثين في العلوم الانسانية ذات الصلة, و كذلك لخبراء اللغويات النظرية لكي يقوموا بتحليلها و شرحها و محاولة تطبيق النظريات عليها, أو حتى التوصية بتعديل بعض جوانب هذه النظريات اذا استدعت الخصائص اللغوية لهذه اللغات ذلك. و أود الاشارة هنا الى ان الحفاظ على اللغات العمانية من الزوال لا يضر بالمواطنة العمانية و لا يمس بالهوية العربية للشعب العماني حيث ان الشخصية العمانية تمكنت من التغلب على الخلافات و التحزبات, ما جعل المجتمع العماني و على الرغم من احتفاظه بروح القبيلة متوحدا بشخصية و هوية عربية واحدة.
بالطبع سيكون هذا المشروع مكلفا من الناحية المادية, و لكن مهما كانت التكاليف فان هذا المشروع يعتبر استثمارا ضروريا لكي نتفادى ان يصبح لحاضرنا المشرق مستقبل اقل اشراقا من الناحية الثقافية. أضف الى ذلك فان مثل هذا التوثيق سيعرف الاجيال القادمة على هذا الارث الحضاري و اللغوي الفريد الذي تتميز به عمان على غيرها من الدول المحيطة, حيث ان هذا المشروع سيحفظ هذا التنوع الثقافي و الحضاري.
و تكمن اهمية هذا المشروع في تفادي خسارة هذه اللغات, و هو ما حدث في دول كثيرة. و في هذا السياق يقول البروفيسور دانيال نتل و البروفيسورة سوزان رومنى ان المائة لغة التي كانت موجودة في ولاية كاليفورنيا قبل وصول اللغة الانجليزية لا يتعلمها اي من ابناء متحدثيها اليوم. و يقولان كذلك ان ستا و خمسين من لغات الهنود الحمر الموجودة في كندا لا يتعلمها ابناء متحدثيها, مما سيؤدي الى زوالها تدريجيا. اما بالنسبة لاستراليا فان تسعين بالمائة من لغات سكانها الاصليين البالغ عددها 250 في طريقها الى الزوال. و تصدق هذه الاحصائيات الى حد كبير في شأن معظم لغات السكان الاصليين في اماكن كالهند و افريقيا و امريكا الجنوبية. هذه الحقائق و غيرها دفعت المختصين في الجامعات الامريكية و الكندية و الاسترالية الى الاسراع الى تدريس هذه اللغات و توثيق خصائصها اللغوية و استخدامها في بحوث اللغويات النظرية. و نتمنى ان يكون لهذه الحقائق نتائج ايجابية للغات العمانية و خصوصا البطحرية و الحرسوسية و الهوبيوت و الكمزارية و الفارسية و العجمية و الزدجالية, و التي لا يتحدث بها الكثيرون. ان امر المحافظة على اللغات العمانية يجب ان لا يقل شأنا عن المحافظة على البيئة و الانواع النباتية و الحيوانية المهددة بالانقراض.

المراجع :

Hofstede, Anda. 1998. Modern South Arabian Languages: An Overview. In Newsletter of Foundation for Endangered Languages # 10, 17-19.
Holes, Clive. 2014. The Omani dialects of Arabic. In Oman Encyclopedia, prepared by the Ministry of Heritage and Culture in Oman.
Nettle, Daniel, and Suzanne Romaine. 2000. Vanishing Voices: The Extinction of the World’s Languages. Oxford University Press.

د. راشد بن علي البلوشي
أستاذ اللغويات المساعد بجامعة السلطان قابوس