[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” أحدثت هذه النهضة العلمية الشاملة انقلابا كبيرا في مجريات الحياة وفي أنماط السلوك عند الإنسان, وأنشأت صياغات وقيما ومفاهيم فكرية جديدة تعد بحق انقلابا على ما سبقها من قيم ومفاهيم كانت سائدة, واستقطبت إلى مراكزها الحضرية العنصر البشري المتعلم الكفء من جميع أقطار العالم, ذلك بسبب ما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية وعلمية وتكنولوجية,”
ـــــــــــــــــــــ
يشهد العصر الذي نعيشه بحق درجة متقدمة من التطور والتمدن والرفاه شملت مختلف مناحي الحياة وبلغ التقدم العلمي مستوى لم يعرفه الإنسان في تاريخه ولم يدر في خلد الجيل الماضي الذي عاش قبل قرن من الآن بأن المستقبل القريب من حاضرهم سوف يشهد نهضة علمية وتقنية يسجل فيها الإنسان نجاحات باهرة في جميع العلوم , في علم الوراثة والطب والعلوم الإنسانية والفلك والاتصال والفضاء ... ولم يكن ليتوقع ذلك الجيل صور ومجريات وأثر هذا التطور في الوسائل والبرامج التي يسرت حياة الإنسان وعملت على راحته وقامت على خدمته بالصورة الحالمة كما نلمسها ونعايشها ونتابع حركتها التصاعدية مهما جمحت بناسه الأحلام والتخيلات, هذا التقدم المذهل الذي حققه الإنسان والذي ما زال في أوج ألقه وصعوده (( إذ لا نعلم ما تخبئه لنا أيام اعتدنا على إعلانها عن ثورات علمية واكتشافات فاقت التصور)) هو وليد نهضة فكرية وتعليمية وجهود بحثية وتجارب لم تعرف اليأس والتراخي انطلقت وتواصلت وتطورت عبر قرون من الأزمنة رافقتها مناقشات علمية ومحاولات جادة تشق طريقها نحو التقدم المعرفي, تنجح أحيانا وتخفق أحيانا ولكنها لم تعرف التردد والتوقف يوما فأدت إلى نشوء نظريات وظهور مكتشفات رائدة عدت الواحدة منها ثورة علمية في المجال أو التخصص أو العلم الواحد بمقياس ما قدمته للبشرية من خدمات جليلة.
هذه النهضة العلمية الشاملة التي يشهدها العالم قامت على أكتافها صناعات عملاقة وشركات عابرة للقارات ذات أصول مالية تفوق في حجمها موازنة عدد من حكومات دول نامية, هذه الشركات وبما تملكه من قوة اقتصادية كبيرة وانطلاقا من مصالح أصحاب رأس المال فيها وحرصهم على نمو صادراتها وتعزيز مكانتها الاقتصادية حثوا الخطى لرسم الخطط وإعداد البرامج والاستراتيجيات التي تضمن مضاعفة عدد المستهلكين لمنتجاتها وفتح أسواق جديدة لها في العالم , هذه الخطط والبرامج توصلت إلى نتائج خطيرة مفادها أنه ولكي تظل هذه الشركات المحرك الحقيقي لتسيير عجلة الاقتصاد في العالم فلا بد لها من ترسيخ أقدامها في أروقة مؤسسات الحكم لكي تضمن تحكمها في مسار السياسة الدولية والإمساك بمفاتيح العديد من القرارات المصيرية التي تشكل منعطفا في حياة أمم ودول ومناطق عديدة من العالم, ولتحقيق تلك الأهداف والغايات قامت بدعم حكومات وشخصيات ذات نفوذ سياسي ووقفت بثقلها لمؤازرة مرشحين لانتخابات الرئاسة والبرلمان في عدد من الدول الديمقراطية, وأحكمت بذلك سيطرتها على مجريات الأحداث في العديد من مناطق العالم , وتحكمت من خلال هيمنتها الاقتصادية على الصناعات والمنتجات من وسائل ومواد وبرامج وأجهزة توصل إليها العلماء من أجل سعادة البشرية فحولتها هذه الشركات التي تحركها المصالح والمطامع إلى شقاء وبؤس وآلام لملايين البشر في أنحاء متفرقة من العالم.
كذلك أحدثت هذه النهضة العلمية الشاملة انقلابا كبيرا في مجريات الحياة وفي أنماط السلوك عند الإنسان, وأنشأت صياغات وقيما ومفاهيم فكرية جديدة تعد بحق انقلابا على ما سبقها من قيم ومفاهيم كانت سائدة, واستقطبت إلى مراكزها الحضرية العنصر البشري المتعلم الكفء من جميع أقطار العالم, ذلك بسبب ما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية وعلمية وتكنولوجية, ولما تتمتع به من بيئة منفتحة مزدهرة تشجع على الحرية وعلى العلم وعلى المزيد من التقدم والتطور وعلى الحوار المنفتح الجاد, وظلت بعض المناطق الفقيرة أو النامية كيفما كانت التسمية هدفا مباحا أرضا وبشرا تستنزف ثرواتها وتلوث بيئتها وتجرى عليها ألوانا من التجارب لأحدث الصناعات التي تنتجها شركات العالم المتمدن, وساحة مفتوحة للصراعات والنزاعات والحروب المشتعلة تستهلك على حساب أبنائها واستقرارها وتنميتها وتطورها أشكالا من الأسلحة والوسائل الفتاكة التي تصدرها تلك الشركات, ومن جانب آخر ظلت مستهلكة لهذه التكنولوجيا أدمنت وسائلها واعتادت على ما تقدمه لها من ترفيه, وكأنها بذلك تدفع ضريبة تخلفها وفقرها وجهلها.
إذن يعيش ملايين البشر في ازدهار وترف وثراء يمارسون حياة خالية من المصاعب والمشاق بفضل النهضة العلمية التي قدمت لهم وسائل وبرامج وعناصر تكنولوجية متطورة شملت مختلف الاستخدامات على مستوى الفرد والجماعة, هذه الإنجازات الهائلة حولت الأرض إلى قرية كونية صغيرة يشاهد فيها إنسان الشرق ما يصنعه إنسان الغرب أمام عينه وفي غرفة نومه، يجري حواراً مباشراً بالصوت والصورة مع من يشاء وفي أي مدينة من مدن الأرض عن طريق الهواتف والفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل، وينتقل بيسر وسهولة من أقصى نقطة في الغرب إلى مقابلها في الشرق في ساعات قليلة, هذا إلى جانب التقدم الهائل في الطب إذ غدا من اليسير إجراء العمليات الجراحية للإنسان في أعقد جزء من جسمه بكل دقة ولطافة. ولو استعرضنا الاكتشافات والبحوث والنجاحات المتلاحقة في علم الوراثة وزراعة الأجنة وغيرها من العلوم الأخرى لطال بنا الحديث، خاصة وإن هذه التطورات المتسارعة يشهدها الإنسان ويقرأ عنها في كل دقيقة واقعاً ملموساًَ على أرض الحقيقة, هذه الصورة المزدهرة تقابلها في الجانب الآخر صورة جد مختلفة حيث يعيش ملايين من البشر حياة تعيسة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة , فلا مياه صالحة للشرب الآدمي ولا مواد غذائية تكفي لسد الجوع ولا حقوق إنسانية تكفل للإنسان عيشا كريما ولا حتى مسكنا آمنا صالحا للسكنى, هي صورة بائسة تمثل الخوف والجهل والفقر في أبشع صوره , في هذه الصورة يعيش إنسان لا يفقه شيئا عن منجزات النهضة العلمية ولا عن منتجاتها ووسائلها المتطورة في وقت يفتقد فيه إلى مستوصف بامكانات متواضعة يتلقى فيه العلاج في لحظات الشدة. يشهد جزء من العالم ثورة علمية ونهضة تنموية وازدهار عمراني ورخاء حياتي وترف تكنولوجي وثراء مادي ونجاح ديمقراطي واستقرار أمني ... ويشهد جزء آخر من العالم فقرا مدقعا وجهلا مستشريا وفسادا مستعصيا وفوضى عارمة وحروبا مدمرة وانتهاكات فاحشة وطفولة مهدرة, هذا التناقض الشديد في الصورة وهذا الاختلاف العميق في الألوان قلل أو حجم كثيرا من انجازات النهضة العلمية ومن تقدمها التكنولوجي وأنشأ عالمين مختلفين عالم متخلف وآخر متقدم, طرف يمارس التدمير والقتل والتدليس والغش والفساد ويحيك المؤامرات والدسائس لتكديس الثروات وضمان تسويق منتجاته وبقائه أطول مدة في سدة الحكم والنفوذ, وطرف آخر مستهدف ملاحق مهدد في حياته تمارس عليه شتى أنواع الظلم والقهر.