”.. منذ انكشفت فضيحة الفساد الواسعة في تركيا الشهر الماضي، وأردوغان يركز على أنها من صنع رجل الدين فتح الله غولن ـ الذي كان من مؤيدي حزب أردوغان لكنه سحب تأييده بعد قرار حكومة أردوغان بشأن المدارس الخاصة الذي أضر بسلسلة مدارس لغولن. ويبدو أن اغلب صراعات أردوغان ـ خاصة في الآونة الأخيرة ـ جذرها البزنس أكثر من السياسة،”
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معروف عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه تاجر ماهر، ويتعامل في السياسة كما في التجارة إلى حد ما. لكن فترة وجوده في الحكم لأكثر من عقد من الزمان لم تغير كثيرا من صفة فيه يتداولها كثير من الأتراك، خاصة في المقارنة بينه وبين الرئيس عبد الله غول الذي ينتمي أيضا لحزب العدالة والتنمية الحاكم. يقول الأتراك إن غول رجل دولة يفكر ثم يتكلم ويتصرف، أما أردوغان فيتكلم أو يتصرف أولا ثم يفكر بعد ذلك. ولا غرابة في أن يكون أردوغان مثلا جيدا على البيت الشهير لشاعر تركيا الراحل العظيم ناظم حكمت ومعناه على ما أذكر أن العقل يأتي إلى التركي متأخرا.
ومنذ انكشفت فضيحة الفساد الواسعة في تركيا الشهر الماضي، وأردوغان يركز على أنها من صنع رجل الدين فتح الله غولن ـ الذي كان من مؤيدي حزب أردوغان لكنه سحب تأييده بعد قرار حكومة أردوغان بشأن المدارس الخاصة الذي أضر بسلسلة مدارس لغولن. ويبدو أن اغلب صراعات أردوغان ـ خاصة في الآونة الأخيرة ـ جذرها البزنس أكثر من السياسة، بعدما ضاقت دائرة المنتفعين حوله في الحزب والسلطة وأصبحت تسيطر إلى حد كبير على كثير من الأعمال والصفقات. وكما قال أحد الوزراء المستقيلين من الحكومة التركية بعد فضيحة الفساد فإن أردوغان لم يعد يسمع لأحد وتحيط به دائرة ضيقة ـ بالضبط مثل "أهل وعشيرة" الإخوان وقت حكمهم لمصر.
وبطريقة الإنكار والعجرفة، التي تميز الإخوان وأردوغان وأمثالهم، لا يخرد خطاب الحكومة عن حديث "المؤامرة الخارجية والداخلية على التجربة التركية" ـ رغم أن أحدا لم يكشف عن تفاصيل تلك المؤامرة ولا من الضالعين فيها خارجيا. لكن حديث المؤامرة كان تبريرا لأردوغان ليحاول التخلص من كل من لا يوالي حزب العدالة والتنمية في مؤسسات الدولة التركية. وانطلقت حملة منذ الشهر الماضي لا تختلف عما بدأه الإخوان في مصر عندما تولوا السلطة من "أخونة" الدولة المصرية بإحلال عناصر إخوانية محل موظفي العموم في كافة المؤسسات. وهو ما يفعله ـ وإن بذكاء أكبر ـ إسلاميو تونس من حركة النهضة. المهم أنه باستثناء إصرار أردوغان على أن ابنه بريء من تهم الفساد والعمولات والصفقات، لم ير الأتراك حجة دامغة تنفي عن رجال أردوغان تهمة الفساد ـ خاصة وأن التلفزيون صور القبض على أحدهم وهناك ملايين الدولارات في بيته نقدا يحفظها في صناديق أحذية كرتونية. ولا شك في أن 11 عاما من حكم أردوغان وحزبه أحدثت فورة هائلة في الاقتصاد لتركي، لكن المنطقي أن ذلك يصحبه فساد وتعاملات مشبوهة خاصة وأن هناك طبقة جديدة من المقربين من أردوغان أصبحت فاحشة الثراء وتسيطر على كثير من مراكز الثروة. وهناك رجال أعمال تقليديون خسروا أعمالهم لصالح صعود "أهل وعشيرة" أردوغان، وهناك أعمال صغيرة ومتوسطة أصبحت تعاني بعد تغول الأوقاف التي يديرها رجال العدالة والتنمية.
بدلا من الشفافية والتعامل بما يطمئن الناس، أخذ أردوغان يطيح بقيادات الشرطة ورجالها في أنحاء البلاد (فصل منهم أكثر من ألف حتى الآن) مسوغا ذلك بادعاء أنهم رجال غريمه فتح الله غولن لكن السبب الحقيقي أنهم كشفوا حلقة من حلقات الفساد. وتقدر الصحافة التركية ـ غير الأردوغانية، وهي قليلة بعدما سيطر رجاله على الإعلام ـ حجم ما كشف عنه بنحو 100 مليار دولار. ولأن النيابة والقضاء يحققون في القضايا، التي أطاحت بثلاثة من وزراء أردوغان حتى الآن، فقد أطاح أردوغان بقيادات النيابة وعدد من القضاة. وتقدم حزبه بمشروع قانون للبرلمان ـ لا يتصور أن يمر ـ يعطي الحكومة سلطة تعيين وفصل النيابة والقضاء. لكن ذلك لم يكن كافيا على ما يبدو، فأقال أردوغان ثلاثة مسؤولين كبار في هيئة المراقبة المصرفية للوكالة التركية للتنظيم المصرفي وخمسة من رؤساء جهاز ادارة الاتصالات الهاتفية، كما أقيل 12 من مسؤولي شبكة التلفزيون العامة تي ار تي بينهم رؤساء تحرير. وبغض النظر إن كان كل هؤلاء ـ ومن سيليهم في مصيرهم ـ من رجال غولن أو غيره، فالمهم أنهم ليسوا رجال أردوغان وبالتالي لن "يستروا" على فضائح وفساد أهله وعشيرته.
إذا كان أردوغان تمكن في بداية حكمه من تحييد المؤسسة العسكرية ـ التي ظلت لعقود سند حماية التراث الأتاتوركي للدولة العلمانية الحديثة ـ فإن مؤسسات الدولة وأركانها ليست "أردوغانية" تماما. ويظل التساؤل مبررا: هل يمكن لأردوغان أن يحل مؤيديه محل غيرهم في كل مؤسسات الدولة؟ هل تكفي الثروة والسلطة أداة لتغيير مؤسسات راسخة مثل أركان الدولة التركية؟ هل سيمر ذلك على الأتراك ـ حتى لو كان أغلبهم يؤيد أردوغان بسبب شعاراته الإسلامية (مثلما المصريون والتونسيون مع الإخوان والنهضة) وخطابه الحماسي ـ الذين بدأت ثقته في تجربة العدالة والتنمية الاقتصادية تهتز، خاصة مع حجم الفساد؟ ستجد هذه التساؤلات إجاباتها في نتائج الانتخابات المحلية الشهر بعد القادم والعامة قرب نهاية العام. وحتى إن لم يخسر الإسلاميون انتخابات البلدية في مارس، فإن تراجع تأييدهم شعبيًّا سيكون مؤشرا على أن عملية "أردغنة" الدولة التركية ليست ناجحة تماما.

د. أيمن مصطفى
كاتب وصحفي عربي