”.. ربما كان أهم ملمح لاستفتاء اسكتلندا على الاستقلال هو نسبة الإقبال على التصويت التي أعادت للديموقراطية الغربية بعض الروح مع تراجع نسب الإقبال على التصويت في الانتخابات بشكل عام. كذلك مشاركة الأجيال المختلفة في عملية التصويت، رغم ما هو معروف تقليديًّا عن أن الاستفتاء ليس أداة الديموقراطية الأمثل. ”
ـــــــــــــــــــــ
بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء في اقليم اسكتلندا الاسبوع الماضي، هناك إجماع تقريبا على أن تأثير ذلك على بريطانيا وبقية أوروبا لن يتوقف عند بقاء الاتحاد البريطاني الذي يشكل "المملكة المتحدة" كما هو. صحيح أن أغلبية ضئيلة صوتت بلا على سؤال استقلال اسكتلندا عن بريطانيا، لكن نسبة كبيرة أيضا من الاسكتلنديين (45%) صوتت بنعم وعدد كبير من هؤلاء من الأجيال الشابة التي ربما تدخل العمل العام في السنوات المقبلة بتوجه انفصالي. ولا يمكن بالطبع اغفال الحملة التي استمرت على مدى عامين من قبل السياسيين القوميين في اسكتلندا الذين دعوا للتصويت بنعم، ولا رد الفعل الدفين لدى بقية الاتحاد (انجلترا وويلز) على رغبة قطاع عريض من أهل الشمال في الاستقلال عن التاج البريطاني.
حتى معسكر الوحدة، الذي تمثل في حزب العمال المعارض بشكل رئيسي، لا يمكنه أن يستكين إلى النتيجة التي أبقت الأوضاع على ما هي عليه ـ إلى حين. ربما أنقذ المستقبل السياسي لرئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون وحليفه في الحكم زعيم حزب الديموقراطيين الأحرار نك كليغ. وربما يحسن حزب العمال المعارض فرصه في الانتخابات العامة العام المقبل ـ فاسكتلندا كتلة عمالية اساسا منها عشرات النواب العمال في مجلس العموم (البرلمان البريطاني في وستمنستر بلندن) وحفنة صغيرة من المحافظين. مع ذلك، لن تكون السياسة في وستمنستر، مقر الحكومة البريطانية، كما هي من قبل اطلاقا بعد استفتاء اسكتلندا. فرغم النتيجة بالبقاء ضمن الاتحاد، وجه الاستفتاء بحد ذاته وما سبقه من حملة على مدى عامين ضربة مؤثرة لما يسمى في بريطانيا "المؤسسة"، ويقصد بها مجموعات الساسة والأعمال في الحكم والاقتصاد وحوله.
تلك المؤسسة تعاني ترهلا بالفعل في السنوات الأخيرة، وكانت آخر محاولات نفخ الروح فيها ابان رئاسة توني بلير وحزب العمال للحكومة في فترته الثانية حينما اقرت خطوات لتقليل المركزية بإعطاء الأقاليم سلطات كانت تتركز في لندن. وأصبح لكل من اسكتلندا وويلز برلمان وحكومة اقليمية الى جانب تمثيلهم في مجلس العموم والحكومة المركزية في لندن. وكانت تلك بداية عملية مستمرة تتطلب نقل مزيد من السلطات المركزية للحكومات الاقليمية في اسكتلندا وويلز من فرض وجمع الضرائب إلى التعليم والتأمين الصحي وغيرها من السياسات التي كانت حكرا على وستمنستر لبريطانيا كلها. وفي الطريق إلى استفتاء استقلال اسكتلندا، تراجعت وتيرة تلك العملية. ولعلها ستعود بقوة الآن، إذ إن الفضل الأكبر في تصويت لا على استقلال اسكتلندا يعود لآخر رئيس وزراء عمالي ـ ألاسكتلندي ـ غوردون براون، ووزير خزانته ألستر دارلنغ الذي قاد حملة لا للاستقلال في اسكتلندا.
وبغض النظر عن وتيرة عملية اللا مركزية، فإن المؤسسة تدرك الآن أن طريقة إدارة أمور الاتحاد من قلب لندن لم تعد ملائمة، وعليها تطوير أساليبها إذا كان للتاج البريطاني أن يستمر مظللا كل الجزيرة. قد يكون أهم أثر لاستفتاء اسكتلندا على النخبة البريطانية هو أنه لم يعد للإنجليز تلك السطوة والميزة التي جعلتهم ينظرون من عل على غيرهم تاريخيا ـ سواء كانوا الاسكتلنديين أو الأيرلنديين. صحيح ان ويلز لها وضع خاص في العلاقة مع انجلترا، ولم يكن متوقعا في المستقبل المنظور أن تلجأ ويلز لاستفتاء استقلال لأسباب تاريخية وجغرافية ـ وإن كانت ثقافيا لا تختلف عن بقية مكونات الاتحاد من تميز عن انجلترا. أما ايرلندا الشمالية فلا شك أن التيار القومي فيها كسب زخما على حساب الوحدويين من مجرد اجراء استفتاء اسكتلندا، بغض النظر عن النتيجة. ولا شك أن شبه الحكم الذاتي في أيرلندا الشمالية مقبل على تطور يتجاوز كثيرا عملية اللا مركزية في علاقة لندن وانجلترا بويلز واسكتلندا.
لا يتوقف أثر اسكتلندا هذا على بريطانيا ونخبة الحكم (المؤسسة) فحسب، بل يتجاوزها إلى القارة الأوروبية عموما. ولعل المثال الأقرب، والذي قارن كثيرون بينه وبين استفتاء اسكتلندا، هو استقلال إقليم كاتالونيا ـ وعاصمته برشلونة ـ عن إسبانيا. ربما يكون وضع كاتالونيا اقرب لأيرلندا الشمالية، فحركة الباسك اقرب للجيش الجمهوري الأيرلندي لكن نموذج محاولة اسكتلندا قد يكون الأمثل لمعرفة رأي شعوب الأقاليم في مسألة انفصالهم عن الوطن الأكبر. وإذا تبع الإسبان ذلك النموذج قد يتكرر في مناطق أوروبية أخرى وفي دول كبيرة قائمة على اتحاد اقاليم تختلف ثقافيا وربما في العرق واللغة أحيانا. ليس بالضرورة ان اثر اسكتلندا هذا "تفتيتي" تماما للدولة/الأمة التي تقوم عليها ديموقراطيات أوروبا الغربية، ولكنه نموذج مؤثر إلى حد كبير. والسبب في تأثيره يعود إلى الطريقة التي جرى بها وأثارت اهتماما غير مسبوق بالتصويت لدى قطاعات واسعة من الجمهور. فربما كان أهم ملمح لاستفتاء اسكتلندا على الاستقلال هو نسبة الإقبال على التصويت التي أعادت للديموقراطية الغربية بعض الروح مع تراجع نسب الإقبال على التصويت في الانتخابات بشكل عام. كذلك مشاركة الأجيال المختلفة في عملية التصويت، رغم ما هو معروف تقليديا عن أن الاستفتاء ليس أداة الديموقراطية الأمثل.
ستبقى اسكتلندا ضمن بريطانيا، لكن شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد في البلاد لن تعود كما كانت تماما. وستنظر بقية أوروبا إلى تجربة اسكتلندا باهتمام يجعلها قابلة للتكرار في دول ومناطق أخرى ـ ذلك هو أثر اسكتلندا.

د.أيمن مصطفى* كاتب صحفي عربي