[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
”.. لم يبخل زويل على وطنه مصر بإنجازاته العلمية، ويرى أن الوجود على خريطة القرن الحادي والعشرين مرتبط بالعلوم الجديدة لا بالحشو الدراسي، بشرط امتلاك التكنولوجيا الحديثة لا مجرد استيرادها، وللدكتور زويل نظرية يرى أنها ستساعد في نقل المعرفة والتكنولوجيا لمنطقتنا العربية، وهي قائمة على إنشاء النقاط أو المراكز المضيئة.”
ــــــــــــــــــــ
"العلم نور" .. شعرت بقوة هذه العبارة، وأنا استمع للعالم المصري أحمد زويل صاحب نوبل في الكيمياء وهو يروي تجربته مع المرض الخطير الذي أصيب به مارس 2013م الماضي، وهو عبارة عن ورم خبيث في النخاع الشوكي أدى لارتفاع نسبة الكالسيوم بالدم بنسبة90%، ويسبب الورم آلاماً مبرحة في العظام وصعوبة في الحركة، ويؤدي أحياناً للوفاة في حالة الفشل في إيقاف ارتفاع نسبة الكالسيوم بالدم، ويحدث هذا المرض نتيجة الوراثة أو الإجهاد. وعندما سئل زويل عن كيف واجه تجربة المرض؟، أجاب :"بالإيمان والمعرفة" فقد تربى في أسرة متدينة تسكن مدينة دسوق بجوار مسجد العارف بالله سيدي إبراهيم الدسوقي، وكان مرتبطاً بالمسجد لدرجة أنه كان يذاكر دروسه فيه بجانب مواظبته على صلاة الجماعة ودروس العلم التي عرفته صحيح الدين وجوهره وهو في سن صغير، وقال زويل إن هذا الزاد الإيماني لازمه في رحلته العلمية في الغرب واستمد منه القوة والثبات في محنته مع المرض.
أما المعرفة فقد استحضرها بمجرد علمه بحقيقة مرضه، فهو قريب من الأبحاث التي أجريت لعلاج حالته، وعن ذلك يقول: إنه لو أصيب بمرضه منذ عشر سنوات فقط، كان يمكن أن يكون المرض قاتلاً؛ حيث شهدت السنوات العشر الأخيرة تقدماً علميًّا كبيراً في علاج حالته، وإن علاجه تم أولاً بتناول عقاقير توقف تكاثر الكالسيوم في الدم وخفضه لنسبة 50%، والمرحلة الثانية كانت بسحب الخلايا الجذعية المصابة من النخاع الشوكي وزرع خلايا جذعية سليمة، وأن مناعته خلال عملية الزرع كانت صفراً، مما جعله ضعيفا كالطفل الوليد، وأن ميكروباً بسيطاً كان كافياً بالقضاء عليه، وأكد إمكانية إجراء مثل هذه العمليات في بلادنا العربية، بشرط توافر درجة عالية من التعقيم والتمريض، وقد ظل زويل عاماً كاملاً يعالج ضعف المناعة حتى تعافى تماماً، وأكد أنه كان يتابع مراحل علاجه بنفسه، ويدخل في نقاشات علمية مع الأطباء، وأنه وجد متعة حقيقية في مراقبة تطور حالته رغم ضعفه وألمه وملازمته فراش المرض وغرف العناية المركزة وأنه لم ينس تدوين ملاحظاته العلمية وتسجيل التغيرات والأرقام والنتائج للاستفادة منها مستقبلاً في الأبحاث المتعلقة بالعلاج بالخلايا الجذعية.
والدكتور زويل حصل على نوبل بعدما ابتكر نظام تصوير سريع يعمل باستخدام الليزر له قدرة على رصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض، والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها الصورة هي فيمتو ثانية، وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية، كما نجح زويل في إدخال البعد الرابع للزمن من خلال اختراعه لميكروسكوب رباعي الأبعاد يمكنه إعطاء صورة عالية الجودة يمكن من خلالها تتبع مسار كل إلكترون على حدة، بدقة متناهية في الزمان والمكان، وهو ما يعرف بالنانو تكنولوجي، وقد تمكن زويل بالفعل من الرصد الدقيق للتفاعلات والمسارات داخل خلية فأر، ويمكن الاستفادة من هذه التكنولوجيا في المجالات الصناعية والعسكرية والطبية والزراعية.
ولم يبخل زويل على وطنه مصر بإنجازاته العلمية، ويرى أن الوجود على خريطة القرن الحادي والعشرين مرتبط بالعلوم الجديدة لا بالحشو الدراسي، بشرط امتلاك التكنولوجيا الحديثة لا مجرد استيرادها، وللدكتور زويل نظرية يرى أنها ستساعد في نقل المعرفة والتكنولوجيا لمنطقتنا العربية، وهي قائمة على إنشاء النقاط أو المراكز المضيئة.
والفكرة تتلخص في أننا لن نستطيع تقديم التعليم التكنولوجي الحديث للجميع لأن ذلك أمر مكلف ويحتاج ميزانيات باهظة، ولأن هناك الطالب متواضع القدرات وهناك من لا يأخذ العلم والتعليم مأخذ الجد، أو من يرى في التعليم وجاهة اجتماعية لا أكثر، بينما هناك طلاب يمتلكون قدرات عقلية عالية، وعندهم رغبة في تحصيل العلم ولديهم طموح علمي ودأب للوصول لمستويات متقدمة في الدراسة والبحث العلمي، هؤلاء هم الفئة الأولى بالرعاية عند زويل ويعتبرهم نواة النقاط المضيئة أو قاطرة التنمية، والنقاط المضيئة هي مراكز تعليمية راقية، تدرس أحدث ما توصل إليه العلم الحديث من تكنولوجيا، يدرس فيها كبار العلماء والباحثين، ومزودة بمعامل ووسائل تعليمية حديثة؛ يلتحق بها هؤلاء الطلبة النابهون.
ويرى زويل أن المراكز أو النقاط المضيئة تقضي على مشكلة قلة الإمكانيات المادية اللازمة للبحث العلمي، ويستدل في ذلك بالهند التي لجأت لهذه المراكز العلمية لتخريج كوادر تكنولوجية، استطاعت من خلالها الوصول للفضاء وتصدير برامج (السوفت وير) لكل أنحاء العالم، وبفضلها تقدمت في تكنولوجيا المعلومات رغم مشاكل الفقر والبطالة، ونقص الخدمات، وتفشي الأمية، وهي أمور تتشابه مع ما تعانيه مصر اليوم من مشكلات، ولكن مصر تتميز أيضاً بأنها مستودع لعنصر بشري متميز، يمكن توظيف النخبة العلمية فيه لتحقيق طفرات تنموية هائلة، لتكون قاطرة للجسد الخامل المثقل بالمشاكل، وتوفر له الموارد اللازمة للتعافي والخروج من أزمته.
وهذا ما شرع فيه زويل بالفعل، من خلال إنشاء جامعة العلوم والتكنولوجيا والتي تقوم فكرتها على تدريب نخبة من الطلاب المصريين منتقاة بعناية (تم اختيار 300 طالب من بين 6 آلاف تقدموا للالتحاق بالجامعة، والدراسة مجاناً فهي مؤسسة مستقلة تعتمد على التبرعات وغير هادفة للربح وهناك 6 علماء حاصلين على نوبل ضمن هيئة التدريس) والجامعة بها تخصصات العلوم الأساسية: الكيمياء والفيزياء وعلوم الأحياء (البيولوجي) والهندسة والتكنولوجيا، ويتضمن الهيكل الأكاديمي مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا ومابعدها في مجال العلوم والتخصصات الحديثة.
هذه المراكز المضيئة تثير قضية الاختيار بين الكم والكيف في سياستنا التعليمية والعلمية؛ فالكم يفتح المجال أمام الجميع في ظل فرص متكافئة بلا تفرقة، ولكن عند الحديث عن البحث العلمي الجاد لا بد من اختيار الكيف لأن طالب البحث العلمي له مواصفات وقدرات خاصة لا تتوافر في غيره، إذا أردنا الوصول لطفرات تكنولوجية توظف العلم في تطوير الصناعة، وخدمة المجالات الطبية والزراعية والبيئية الحديثة.
ولقد عانينا في مصر وعالمنا العربي من ضياع العبقرية في زحام التعليم المجاني للجميع رغم عدم توافر الميزانيات اللازمة لتأهيل وتدريب هذه الأعداد المتزايدة، والنتيجة آلاف الخريجين كل عام من الكليات النظرية والعملية ينضمون لطابور الباحثين عن عمل في الداخل، ولا يمتلكون مقومات المنافسة على الوظائف المتوافقة مع مؤهلاتهم في الخارج.
إذا كنا جادين في اللحاق بإيقاع العصر لا بد من توطين التكنولوجيا المتطورة وتطبيقها في الصناعات كثيفة استخدام الأيدي العاملة، سريعة العائد، مثل صناعة الهواتف النقالة، وشرائح السليكون التي تستخدم في الصناعات الإلكترونية والخلايا المستخدمة في إنتاج الطاقة الشمسية، ولم يعد التقدم التكنولوجي مقصوراً على الغرب، بل هناك مدرسة تكنولوجية آسيوية أثبتت أن التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تجد مكانها وفقاً لأساليب مختلفة تعتمد على نظرية الميزة النسبية لكل دولة حسب مواردها الطبيعية والبشرية، وهذا ما نراه اليوم في الصين وكوريا الجنوبية التي أصبحت القوة الرابعة اقتصاديا على مستوى العالم، والأولى في بناء السفن العملاقة؛ والثانية في إنتاج الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية رغم عدم امتلاكها بترولاً ولا مواد خام، وتعتمد على استيراد معظم احتياجات الصناعة من الخارج، ولكنها تصدر بـ 560 مليار دولار وفائضها التجاري يسجل 45 مليار دولار سنويًّا.
حدثت هذه الطفرة خلال العقود الأربعة الماضية، وقبل ذلك عانت هذه الدول من الحروب والاضطرابات السياسية التي مزقتها سنين طويلة، ونفس الشيء يقال عن التجربة الماليزية التي بدأت على يد محاضر محمد أيضاً منذ أربعة عقود، واستطاع تحويل ماليزيا من دولة زراعية فقيرة تعتمد على تصدير المواد الخام إلى نمر اقتصادي واعد ينافس في صناعة السيارات، والأجهزة الكهربائية، والملابس الجاهزة، واعتمد محاضر على التعليم والتدريب ونقل التكنولوجيا ورؤوس الأموال من الخارج، واستطاع في زمن قصير القضاء على الفقر، والوصول بقيمة الصادرات الخارجية لماليزيا لـ 240 مليار دولار سنويًّا.
المراكز المضيئة التي يتبناها الدكتور زويل لن تكون مصدر إشعاع علمي وأكاديمي فقط، بل ستكون ركيزة للتنمية الشاملة بعد إعلان الدكتور زويل توصله لاتفاق مع مستثمرين مصريين وأجانب لربط نتائج البحوث بالصناعات الحديثة واستيعاب مخرجات الجامعة للعمل في مراكز التطوير التكنولوجي التابعة لمدينة زويل العلمية المزمع إنشاؤها فور الانتهاء من تدشين مباني الجامعة.
نظرية النقاط المضيئة التي يتبناها زويل، لا تتصادم مع مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب، فحق التعليم المجاني مكفول للجميع، إرساءً لمبادئ العدالة الاجتماعية ومفهوم المساواة وحق المواطنة، ولكن الاختلاف في تحديد المرحلة التي تكفل فيها الدولة التعليم المجاني للجميع، هل هي المرحلة الثانوية؟!، أوالتعليم التقني والفني؟!، هل نجعل الالتحاق بالجامعة متاحاً للطالب المتفوق فقط؟!، هل تكفي الثانوية العامة لتكون مصوغاً للالتحاق بالعمل؟! ، أسئلة تطرحها نظرية زويل وتحتاج للنقاش من الباحثين المتخصصين، وللحوار المجتمعي الجاد حتى نصل لحلول حقيقية لمشاكل التعليم والبحث العلمي في مصر والبلاد العربية.