إن الشعوب تبني حضارتها بالعلم والعلماء والباحثين المبدعين في مختلف المجالات الذين تترجم عصارات عقولهم إلى تطور وتنمية ووضع حلول لكل ما يواجه الحضارة الإنسانية من عقبات. وهذا حقيقة ملموسة في جهات الأرض الأربع بدا من خلال النقلة العلمية الهائلة في الدول التي نهضت بشعوبها وبعلمائها وبمفكريها وباحثيها ورعتهم حق الرعاية، ومهدت الطرق اللازمة أمام الراغبين في الوقوف على قواعد الريادة ومتاريس النجاح، والتربع على منصات التتويج ليس مباهاة بل رفعة في تواضع.
لذلك شكل رص صفوف المعرفة وقوالب المعاني وإعلاء صروح العلم، وبناء أجيال مسلحة بالعلم والمعرفة والمهارة مؤهلة وقادرة على الإمساك بصولجان البناء والتطور والتقدم بكل جدارة واستحقاق، أولى أبجديات النهضة العمانية المباركة وأولوية الأولويات في فكر قائد مسيرتها المظفرة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ.
وإذا كانت مسيرة العمل الوطني على مدى مراحل النهضة المباركة مضت وفق خطوات محسوبة ومدروسة لبناء الإنسان العماني، فإن الحاجة اليوم أدعى إلى الانتقال من طور البناء إلى طور الارتقاء وخاصة في جوانب الريادة والمهارة والتأهيل والتدريب، مواكبة مع متغيرات الحياة وطرق العيش، ومع إفرازات العصر وتطوراته العلمية والفكرية، وبالتالي بات لزامًا استحداث خطط وبرامج طموحة وواعدة تعنى بتلك الجوانب السالفة الذكر لارتباطها المباشر بالحياة وأنماط العيش وملامستها الاستقرار الاجتماعي وحتى الاستقرار السياسي، فما كان مقبولًا بالأمس، لم يعد مقبولًا اليوم، بل مرفوض الاستمرار في طريقه؛ ذلك أن البناء الحقيقي للأوطان لا يتم تمامه إلا بسواعد أبنائها، وإذا كانت دواعي الحاجة فرضت الاستعانة بالأيدي العاملة الوافدة في البدايات فيجب أن لا تستمر وبدون نهايات.
ولهذا آن الأوان لإعادة النظر في نظام التعليم وفلسفته، وإعادة رسمهما بما يتواكب مع حاجات الوطن الملحة لسواعد أبنائه، ورغبة ذرات ترابه في التشبع من عرقهم المنسكبة عليها خبرةً وثقةً وقدرةً ومهارةً وإخلاصًا.
وتأتي الندوة الوطنية "التعليم لريادة الأعمال والابتكار" التي افتتحت فعالياتها أمس بفندق قصر البستان بتوجيهات سامية من لدن جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ تعبيرًا عن الرغبة الأكيدة والصادقة لدى جلالته وحكومته بأهمية مراجعة سياسات التعليم وخططه وبرامجه، وأهمية ربط مخرجات التعليم بمتطلبات سوق العمل. كما تأتي الندوة استكمالًا ومتابعة لندوة "تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة" التي عقدت بسيح الشامخات بولاية بهلا بمحافظة الداخلية، والتي تمخضت عن جملة من القرارات منها إجراء مزيد من الدراسة بشأن تضمين ريادة الأعمال في المناهج الدراسية والبرامج التعليمية في التعليم المدرسي واستخدام وسائل حديثة لغرس ثقافة ريادة الأعمال في صفوف الناشئة من أجل إكسابهم ثقافة العمل الحر وريادة الأعمال.
وما من شك أن هذه الندوة يمكن أن تقدم إضافة حقيقية ونوعية من خلال أوراق العمل التي ستقدم على مدى ثلاثة أيام، ورسم معالم نظام تعليمي قائم على فلسفة واضحة تولي العمل اهتمامًا كبيرًا لارتباط التعليم بالعمل والتنمية ارتباطًا تامًّا، فكل التمنيات بأن تخرج السلطنة من هذه الندوة بأفكار وخطط ناجحة وواضحة في التطبيق والتنفيذ، وتحقيق شراكة وتجانس بين قطاعي التعليم وسوق العمل.