‏[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني [/author]
وصف رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان العقوبات التي يتخذها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا بأنها كمن "يطلق النار على قدميه". كان هذا منه قبل اتخاذ الاتحاد حزمة العقوبات الأخيرة وتاليًا لاتخاذه ما سبقها بمشاركة من بلاده كعضو في الاتحاد، وعلى الرغم من انعكاساتها السيئة على اقتصادات بلاده المعتمدة على الطاقة الروسية إلى جانب أهمية السوق الروسية بالنسبة للمنتجات المجرية. ما قاله اوربان، وهو بالمناسبة من غير المرضي عنه لتوجهاته الاستقلالية أو نزوعه القومي من قبل الاتحاد، قد يقوله ولا يعلنه نظراء آخرون غيره في دول الاتحاد، لا سيما تلك التي تربطها بروسيا منافع اقتصادية وتجارية متبادلة، ناهيك عن مسألة اعتمادها بنسب مختلفة على مصادر الطاقة الروسية نفطًا وغازًا، بل وحتى الكهرباء كالمجر مثلًا، وفي المقدمة من كل هاته تأتي حجر الزاوية في الاتحاد برمته ألمانيا. ربما لهذا لا تتسم هذه العقوبات حتى الآن بالجدية الكافية، التي تتماشى مع اشتداد رياح الحرب الباردة التي باتت تعصف بالعلاقات الروسية الأميركية تحت العنوان الأوكراني، أو تتوازى مع أعراض حمى الجموح الناتوي للتمدد شرقًا في المجال الأوراسي على حساب روسيا. لذا نرى الروس لا يبدون حتى الآن ما يشي بأنهم يأخذون هذه العقوبات كثيرًا على محمل الجد، أو بأكثر من كونها لا تزد عن أوراق ضغط تُقتصد لما سوف تأتي من مساومات ومقايضات معهم لاحقًا. وعليه، بدأوا في الشروع في تطبيق سياسة حذر مقابل حذر، أو العقوبات المتبادلة.
حتى الآن، كل ما ثار على ضفاف الأزمة الأوكرانية تحكمه تجاذبات يبدو أن لها سقفًا لن يتم تجاوزه، ومرده إدراك طرفيها لمسألتين يحرصان على أن تظلا قيد التحكم، أو أن لا تكونا ناقلتين لرحى الحرب الباردة من مناخاتها القائمة مهما اهتاجت إلى حيث مخاطر الساخنة التي قطعًا لا يريدانها كليهما... يدرك الغرب أن هناك خطًّا أحمر روسيًّا لا تمتلك روسيا ترف التساهل معه أو التلكؤ في مواجهته بكل ما تملك، ذلك لمصيريته بالنسبة لأمنها ومصالحها ونظرتها لموقعها ودورها الكوني، وصولًا إلى ما تطمح وتسعى إليه من ضرورة الوصول بالعالم إلى نظام دولي متعدد القطبيات، وهو العبث بكيانات حديقتهم الخلفية تاريخيًّا عبر ضم دول من دول ما تعرف بـ"الرابطة المستقلة" للناتو... ويدرك الروس أن الهدف الأساس للغرب، أو بالأحرى الولايات المتحدة، هو استنزافهم وإضعافهم بغية منع تعدد القطبية التي يسعون هم ودول "البريكس" للوصول بالعالم إليها، وليس نصرةً لأوكرانيا ولا من أجل سواد عينيها.
إن هذا هو ما يفسر متوالية التصعيد الذي يعقبه التراجع في متسارع التجاذبات التي حفلت بها الأسابيع الأخيرة... المناورات الأطلسية في البحر الأسود يقابلها مناورات روسية عرضت فيها "الأسلحة الأشد فتكًا" وفق وصف لأمين عام حلف الناتو راسموسن، والتوجه الناتوي لنشر القوات والقواعد، أو المخافر المتقدمة، في المحيط الروسي، قابله روسيًّا التلويح بتغيير قواعد كل من العقيدة العسكرية والردع النووي، ثم الإعلان عن تجربة صاروخ "بولافا" العابر للقارات والقادر على حمل عشرة رؤوس نووية، وتوقيع بوتين على مرسوم يمنحه السلطة المباشرة على الصناعات الدفاعية الروسية... ليتراجع الأطلسي لاحقًا، وهنا يجب عدم إغفال الضغط الألماني والحاجة للروس في مجالات الأمن الدولي، فيستعاض عن نشر القواعد والقوات، ومباشرة تسليح أوكرانيا وضمها للحلف، بـ"قوة الردع السريع" ومناورات "الحربة السريعة" غربها والعودة للوعود بتسليحها، وزيارة أوباما لدول البلطيق، الأكثر تشددًا لمعاناتها فوبيا خطر الاجتياح الروسي، لطمأنتها. تلا ذلك تواضع ما كان من قمة ويلز بالنسبة للآمال الأوكرانية، وربط العقوبات بسير الهدنة في الشرق الأوكراني، الأمر الذي يعني خذلانًا واضحًا لكييف، والذي دفعها لإبداء نوع من القبول بالاشتراطات الروسية للحل، أي بعد أن فرض الروس قواعد الاشتباك هناك، الأمر الذي حدا الرئيس الأوكراني، الذي وصفه وزير الخارجية الروسي لافروف بأنه المعارض للانضمام للناتو، إلى طرح مقترح "وضع خاص"، أو حكم ذاتي انتقالي وحكومة محلية لثلاث سنوات للأقاليم المتمردة هناك، وهو ما أقره البرلمان الأوكراني الذي حله بوروشنكو نفسه منذ أسابيع مضت!
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما وراء خطوة المفاوضات بين الانفصاليين وكييف كانت تكمن لعبة اعتراضية روسية ذكية استبقت قمة ويلز وأتت في سياق صد ذات الاستهدافات الأميركية لاستغلال الأزمة الأوكرانية.
إن من أهم ما يتكشف عنه مشهد الصراع الدائر على الساحة الأكرانية، والذي لا يمكن عزله بحال عن سواه مما يديرها الأميركان من صراعات في الساحات الكونية الأخرى، هو أن أوروبا شبه المفلسة، والتي لا تحتمل زيادات في ميزانياتها العسكرية، ومهما حثتها لوثة جموحها الأطلسي، أو أجبرها الأميركان على إطلاق النار على أقدامها، فإنه من المشكوك فيه دفعها لشراء أسلحتهم اتقاءً لفزَّاعة الخطر الروسي، كما ليس من السهل جرها لخوض حروب في أماكن أخرى إن هي إرادتها لا تقوى على خوضها. وبعيدًا عن التصريحات العرمرمية، واستسهال المشاركات القتالية الجوية المقترنة بالاستعراضات "الإنسانية"، فإن هذا هو ما يمكن سحبه على ما سوف تواجهه صيحات حرب أوباما الداعشية بائتلافاتها الفضفاضة في متوالية متوالد حروب الأميركان الإرهابية الكونية على الإرهاب، هذه الجارية في سياقات محاولاتهم المستميتة لتأخير ازوف استحقاقات دفن تفردهم بآحادية القطبية الدولية كخطوة إجبارية باتجاه متحتم أفولهم الإمبراطوري الذي بدأ عده العكسي...