من الحقائق الثابتة من خلال التاريخ، أن القادر على صنع الحرب وتعظيم ويلاتها هو أقدر أيضًا على صنع السلام وبسط ميزاته، ومن المؤكد أن مثل هذه الحقائق تدركها تمامًا الولايات المتحدة، إلا أن من المؤسف أن القوة العظمى وهي تسير باتجاه شيخوخة طاعنة وربما نهاية سياسية من حيث التأثير والقيادة في هذا العالم، تبدو مصرة على المضي نحو توتير الأجواء وإشعال الحروب وحوك المؤامرات والدسائس.
وتأتي القضية الفلسطينية اليوم على رأس الشواهد الدالة على حقيقة التوجه السياسي للولايات المتحدة عبر ما يتبدى من سياساتها الراهنة في العالم وخاصة في المنطقة بدعمها المطلق، وانحيازها الأعمى لكيان الاحتلال الإسرائيلي وتبني السياسات الصهيونية الإقصائية والمشاريع الاستعمارية والتدميرية، وقبول الولايات المتحدة ـ التي تطرح نفسها أنها حامية السلام وراعيته في العالم ـ قيادة طابور المنفذين لتلك السياسات الصهيونية دون محاولة إجراء فرز لها ولو مرة واحدة في تاريخها لتقف على ما ترتكبه من أخطاء فادحة ليس فقط بحق شعوب المنطقة وبحق الشعب الفلسطيني بوجه خاص، وإنما بحق الولايات المتحدة كدولة عظمى وبحق الشعب الأميركي أيضًا.
وعلى الرغم من إدراك الولايات المتحدة أيضًا أن التاريخ لا يرحم، فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة ليست في وارد إعادة النظر في سياساتها الهدامة والمدمرة، وليست في وارد صياغة مواقف سياسية تتناغم مع حاجة العالم والمنطقة إلى السلام الحقيقي والتعايش السلمي بين الشعوب، وبالتالي تحسن صورتها التي تهاوت إلى الحضيض وتخفف من قبح صورتها وسياساتها في صفحات التاريخ.
وفيما يخص الصراع العربي ـ الإسرائيلي نجد أن الولايات المتحدة لا تأتي على ذكر القضية الفلسطينية إلا حين تنشب حرائق في المنطقة التي تكون قد تقدمت المشهد فيها الولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الإسرائيلي أو كان الأخير ضالعًا فيها، ففي ظل ما يتسيد المشهد في المنطقة من إرهاب وتطرف وفتن طائفية، والدور الصهيو ـ أميركي الأبرز في إشعال المنطقة بنيران الإرهاب والطائفية المقيتة يعاود الرئيس باراك أوباما تشغيل أسطوانته التي أدارها في بداية توليه ولايته الرئاسية الأولى بالحديث عن حل الدولتين (دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية) في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. والتاريخ الأميركي في رعاية عملية السلام في المنطقة مليء بالأدلة والشواهد على أن الولايات المتحدة لا تلجأ إلى دغدغة العواطف بتدوير أسطوانة حل القضية الفلسطينية إلا إذا كان لديها مشروع كبير في المنطقة تريد تنفيذه، وطبعًا ليس هناك اليوم مشروع أخطر وأكبر من مشروع ما يسمى الشرق الأوسط الكبير وإعادة رسم خريطة المنطقة بما يضمن هيمنة كيان الاحتلال الإسرائيلي كقوة احتلالية استعمارية كبرى في المنطقة تتحكم بمفاصلها، وتفتيت دول المنطقة إلى كيانات طائفية متناحرة، وهو مشروع تحاول أن تأتيه ـ في ظل محاولات الصد والإفشال التي يقوم بها محور المقاومة ـ من خلال تحركات ظاهرية بمحاربة الإرهاب الذي أنتجته الولايات المتحدة وحلفاؤها لتفتيت المنطقة، وذلك باستصدار قرارات أممية خاصة بمكافحة الإرهاب وتحت الفصل السابع.
وفي خضم هذا الحراك المشبوه، خطا الفلسطينيون أمس الأول خطوة متقدمة باتفاق حركتي فتح وحماس على إدارة قطاع غزة ومعابرها لحكومة التوافق التي تمخضت عن اتفاق المصالحة "اتفاق الشاطئ" الذي توصلت إليه الحركتان قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع. ولا ريب أن هذا الاتفاق يفوِّت على كيان الاحتلال الإسرائيلي فرصة النيل من اتفاق المصالحة ودس السم، وإعادة الفلسطينيين إلى المربع الأول وإلى تلك الأيام الصعبة والقاسية والمجنونة على الشعب الفلسطيني التي أدى الانقسام الفلسطيني الطاحن فيها إلى تدهور الأوضاع لصالح الاحتلال الإسرائيلي ونهب المحتل الإسرائيلي وتهويده المزيد من الأراضي.
ولذلك من الواجب أن ينتبه الفلسطينيون ـ عبر ما بدا لهم من حقائق وانكشافات بُعيْد اتفاق المصالحة أولًا وأثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما يجري راهنًا في المنطقة من مؤامرات ودسائس ـ، أن الظهير العربي لم يعد موجودًا بالقدر الذي يمكن أن يحتموا به أو يقيموا به دولتهم المستقلة، وبالتالي أي اختلاف أو العودة إلى الانقسام يعني نجاحًا مباشرًا لتصفية قضيتهم العادلة. فهل أنتم أيها الفلسطينيون راضون بهذا المصير وموافقون عليه؟ طبعًا لا. ولهذا فإن اتفاقكم أمس الأول يجب أن يكون لبنة جديدة في طريق التحرر والانتصار للقضية.