يبدو أن الأجيال القادمة ستعيش حياة مختلفة تماما عن حياتنا المعاصرة، فمن يقرأ التطورات الاجتماعية التي حدثت في الألفية الأخيرة والتطورات الهائلة التي حدثت فقط في آخر مائة سنة بوسعه أن يلمح الخط التصاعدي الحاد لطبيعة حياة البشر، حيث أصبحنا ننتقل من نمط حياة إلى آخر بسرعة ضوئية هائلة، وفي مقارنة بسيطة لو تتبعنا حياة أجدادنا مثلا سنجدهم قد عاشوا نمط حياة واحدا، غير أن حياتنا لم تعرف الثبات على نمط معين.
بدأ التواصل بين الناس بواسطة الإشارة والرمز حتى تكوّنت لغة التخاطب التي بفضلها أصبح اللقاء المباشر موصّلا جيدا للتفاهم بين البشر بجانب رواية الأخبار وتناقلها، وكل هذه الطرق اعتمدت على الكلام أي اللغة المنطوقة، ثم تحولنا إلى الكتابة التي أحدثت طفرة تاريخية عظيمة وقد انتشرت الكتابة واعتبر من لا يجيدها أو من لا يجيد القراءة جاهلا وأميّا، وبعد مئات السنوات انتقلنا لمرحلة ما بعد الكتابة وهي مرحلة التواصل بواسطة وسائط أخرى، فكان الهاتف الثابت اختراعا عظيما لسهولة التواصل شريطة تواجدنا بجواره لتبادل الحديث مع الآخرين، لننتقل بعدها لمرحلة أكثر سهولة وهي التواصل عبر الهاتف المتحرك الذي ينقل لنا الخبر أينما كنا ويربطنا بالآخرين بسرعة وسهولة، ثم انتقلنا لنمط جديد للتواصل غير أنه لا يعتمد على التخاطب الشفهي وهو الانترنت لنتعرّف على أصدقاء جدد لم يكن بوسعنا أن نتعرف عليهم بواسطة نمط الحياة السابق، فالبعض اتخذوا من بعضهم أصدقاء دائمين وبلغت الثقة ببعضهم أن يكون وسيلتهم للزواج، وحتى في التجارة فأنك لا تحتاج للسفر خلف البحار لتعقد صفقة تجارية بل فقط ما تحتاجه بطاقة ائتمانية وكبسة زر لتشتري مليون سلعة وأنت على مكتبك. ثم انتقلنا إلى نمط آخر وهو التواصل الاجتماعي الجديد والذي يلغي الحوار الشفهي نهائيا وأشهره (الفيسبوك والتويتر ) حيث تسبب هذا النوع من التواصل في تغيير نظام بعض الدول السياسي وأحدث ثورة اجتماعية وسياسية وثقافية خطيرة وقد أحدث انقلابا فكريا وعاطفيا دون أن يستعين بلغة الخطاب الشفهي. لقد وجد هذا النوع من التواصل قبولا ورواجا في العالم حيث يصل عدد المشتركين في الفيسبوك فقط ما يقارب مليار مشترك والعدد في تزايد؛ ناهيكم عن التويتر والواتسب الذي تقدّر أعداد الرسائل المتبادلة بين المشتركين من خلاله بعشرين مليار رسالة يوميا!!، إن هذه المؤشرات تدل صراحة على مرحلة قادمة لا تعتمد على الكلام المباشر والحوار بين البشر بل تعتمد على الرموز الرقمية فلقد انتقلنا في فترة زمنية قصيرة جدا من الحديث المسموع إلى الكتابة والقراءة الصامتة والصورة المعبرة. وربما يكون أصحاب الاحتياجات الخاصة وتحديدا (البكمان) هم الأكثر استفادة من هذا التطور؛ نعم لقد انتقلنا إلى حياة البكمان، وباستطاعة أي واحد منكم أن يكتشف ذلك بواسطة المقارنة بين فاتورة هاتفه قبل سنتين مثلا وفاتورته الأخيرة؛ سيكتشف بأنه لم يعد يتحدث كثيرا !!. لقد أصبحنا نقرأ وننظر فقط. لم نعد نتحدث مع أصدقائنا وزملائنا كثيرا برغم وجودنا معهم طوال اليوم، مكتفين بلغة (الواتساب والبلاك بيري والفيسبوك والتويتر......). فلم نعد نستغرب أن نشاهد مجموعة من الأصدقاء يجلسون جنبا إلى جنب وعلى طاولة واحدة أو في مجلس واحد ولا يتحدثون إلا قليلا فكل واحد منهم مشغول بالرد على المتواصلين معه عبر وسائل التواصل المختلفة والطريف بل والمحزن أن كل واحد منهم يرد على أصدقائه الذين يجلسون بجانبه عبر تلك الوسائط !!.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه الشركات التقنية باكتشاف طريقة جديدة سهلة وممتعة ورائجة للتواصل بين البشر يتهافت العالم في اقتناء المنتج الجديد ، وحاليا نعيش مرحلة دمج الهاتف بالكمبيوتر بشاشة التلفزيون. والأكيد أن كل هذه الاختراعات تعتمد على القراءة المرئية والتواصل بالكتابة ولا تعتمد على الحوار الشفهي أي الكلام المتبادل.
وفي عالم الشعر لا يحتاج الشاعر للاتصال بصديقه الشاعر الآخر ليُسمعه قصيدته الجديدة بل يكتفي بإرسالها عبر الوسائط ويأتيه الرد فورا وحتى قبل أن يقرأها الشاعر الآخر :( يا سلام قصيدة رائعة) !!، ولقد سحرني شخصيا كلام أحد ملاّك الهجن في أحد البرنامج المتخصصة حينما قال أنه تلقى الكثير من المباركات لفوز جمله في إحدى السباقات ولقد تلقى تلك المباركات والتهاني عبر حسابه الخاص على التويتر.إذا، لم تعد هذه الوسائل حكرا على مجال معين أو فئة معينة لقد دخلت في المجتمع وأصبحت شيئا طبيعيا. إننا نمضي نحو الصمت بسرعة هائلة، ويبدو أن لغة الإشارة ستعود من جديد ولكنها بقوالب مختلفة ستختارها حروب التكنولوجيا المستعرة .

حمد الخروصي
twitter: @hamed_alkharusi