[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”.. لا أخفي مدى صدمتي وأنا أسمع من فم مثقف عربي نكرانا لكل التراث العربي الإسلامي في مجال الحريات واحترام العقد الرابط بين الحاكم والمحكوم، وقد فرط العرب ونخبهم الحاكمة والمعارضة في كنوز الرصيد العربي الممتد من المحيط الى الخليج في هذا الباب فقط أي الفكر السياسي العربي الإسلامي الزاخر كالبحر بعمالقة كبار تركوا للإنسانية كلها أهرامات من المعاجم وأمهات الكتب خلال خمسة عشر قرنا من الحضارة. ”
ــــــــــــــــــــ
غريب أن يرتبط اسم العرب اليوم بالإرهاب وأن نخسر كل ما كسبناه من ربيع عربي اعتقدنا أننا طوينا به ومعه صفحات الاستبداد ودشنا به ومعه عصرا ذهبيا فإذا بنا مع ذبح الناس وصلبهم ومع ارتفاع الشعارات الجوفاء نعود لا إلى عهد الاستبداد بل إلى عصر ما قبل تاريخ الإنسان واندثرت الدول الوطنية العربية إلى شتات قبائل وميليشيات لم نعد نعرف فيها صديقا من عدو أو نتبين فيها صاحب حق من صاحب باطل وأمثلة ليبيا وسوريا واليمن والعراق ماثلة أمام الرأي العام الدولي شاهدة على ضياع ما تبقى من كرامتنا ومقدراتنا ووحدتنا.
تحتل الشعوب العربية منذ انتصار ثورة تونس في 14 يناير 2011 مركز الاهتمام لدى الرأي العام الدولي لسبب بسيط هو أن هذا الرأي العام فوجئ باندلاع الشرارة من تونس واعتقدنا بسذاجة أن نهر الحريات تفجر من ينبوعه التونسي إلى كافة أرجاء المشرق والمغرب وتأملنا في غفلة من الدهر أن يسير في مجراه إلى مصب عودة العرب لدورة التاريخ. وهو ما أنصفنا فيه المنصفون حين قال أحدهم بأن لبلادنا تونس الحق في براءة الاختراع والسبب الثاني لوقع المفاجأة لدى المراقبين هو أن العديد من المستشرقين الغربيين الجدد أبناء فكر برنارد لويس طالما وضعوا للعالم العربي نظريات تفيد بأن الاستبداد يحمل جينات عربية إسلامية وأن العرب أهل تبعية وأعداء للحرية فكذبناهم رافعين رايات الحريات بل إن كثيرا من العرب كانوا يؤيدون نظريات برنارد لويس ويحبرون البحوث والدراسات للمراكز والجامعات يؤكدون فيها قواعد القنوط من العرب أعداء الديمقراطية !. وأنت ترانا اليوم أيها القارئ الكريم بعد خيبة أملنا وانكسار حجتنا أمام نهر الفوضى العربية الجارف نعيش استمرار المؤامرات والخيبات بأساليب أخرى كأنما قدرنا أن يظل العرب ذيولا و أذنابا لأسيادهم الغربيين بل ربما تسلل الاستعمار إلى مراكز السلطة فأعاد احتلال بلداننا تدعمه جيوش نراها أو لا نراها من أعوان المخابرات الغربية تبوئهم المناصب وتغدق عليهم المصداقية والنعمة.
وأذكر أنني منذ مدة شاهدت في برنامج تلفزيوني بقناة تلفزيونية، مقابلة بين "مفكرين اثنين" من المغرب العربي للجدل حول صدقية الانتخابات في بعض الدول العربية ومدى تعبيرها عن الرأي الحقيقي للشعوب، وهو موضوع فيه اختلاف، وفيه بالطبع اختلاف المتناقشين الاثنين، والاختلاف مطلوب من قبل صاحب هذا البرنامج، ويتحول أحيانا إلى خلاف مما لا يفسد للود قضية على كل حال حسب الحكمة العربية. وأنا لا أريد في هذا التعليق القصير أن أدلي برأيي، بعد أن أدليت به مرات عديدة في نفس ذلك البرنامج وعلى نفس القناة، لكني أريد فقط التعبير عن أشد العجب من اعتقاد راسخ لدى أحد المتجادلين، بأن الغربيين عموما والفرنسيين تحديدا يستحقون الديمقراطية وحقوق الإنسان لأنهم ـ كما قال هذا الرجل حرفيا ـ لديهم فطاحلة الفكر أمثال فولتير ومنتسكيو وجون جاك روسو، مهدوا للفكر الديمقراطي وأسسوا مدرسة التنوير ونظروا للدساتير الليبرالية، وأضاف المتحدث المتحمس لبرهانه: أين نحن العرب من هذا؟
للحقيقة قررت حينما سمعت هذا السؤال أن أساهم بقسطي المتواضع للجواب عليه، توسما للخير في هذه الحوارات التي يجب أن تستمر عبر وسائل الإعلام ومنابر الثقافة. ولا أخفي مدى صدمتي وأنا أسمع من فم مثقف عربي نكرانا لكل التراث العربي الإسلامي في مجال الحريات واحترام العقد الرابط بين الحاكم والمحكوم، وقد فرط العرب ونخبهم الحاكمة والمعارضة في كنوز الرصيد العربي الممتد من المحيط إلى الخليج في هذا الباب فقط أي الفكر السياسي العربي الإسلامي الزاخر كالبحر بعمالقة كبار تركوا للإنسانية كلها أهرامات من المعاجم وأمهات الكتب خلال خمسة عشر قرنا من الحضارة. واختلافي مع رأي هذا الزميل هو أن العرب لديهم تراث فكري وعلمي يؤهلهم للتقدم والرقي وغزو المصير لكنهم فرطوا في تراثهم هذا والواقع أن العرب أغنياء بماضيهم لكنهم أساؤوا التعاطي مع أدوات النهضة وخشية أن أضيع بين الكنوز الفكرية رأيت أن يقتصر كلامي على بلاد المتحدث نفسه، تونس، وعلى جزء يسير من إسهامها في إثراء الثقافة العربية والإسلامية والعالمية، قبل قرون طويلة من العظماء الفرنسيين الذين ذكرهم الرجل واستشهد بفكرهم الثاقب لاستحقاق الديمقراطية دون العرب....والذين نعتهم بكونهم أيتام مجد وناقصي حضارة. وتونس العربية هي التي أنجبت العلامة عبدالرحمن ابن خلدون، صاحب كتاب المقدمة وفي هذا الكتاب كان العلامة هو أول من طالب الملوك بسن دستور واضح يحدد الحقوق والواجبات ويكون بين ولي الأمر وشعبه عقدا سياسيا ونظاما للملك مقترحا ما سماه الميثاق المختوم بين الحاكم والمحكوم.
وتونس أيضا هي من أنجبت الإمام سحنون بن سعيد التنوخي الذي كان أول من قنن مبدأ استقلال القضاء حين رفض منصب القضاء الذي عرضه عليه الأمير محمد بن الأغلب فسأله الأمير عن سر رفضه فأجابه بقول خلده المؤرخون وهو :" أشترط أن أقاضيك وأقاضي أهل بيتك وقرابتك وأعوانك فإن عليهم ظلامات للناس وأموالا لهم منذ زمن طويل حيث لم يجترئ عليهم من ولي القضاء قبلي" ، فقال الأمير :" نعم لا تبدأ إلا بهم وأجر الحق على مفترق رأسي". وهذا المبدأ الذي ظهر اليوم خلال الثورات العربية مبدأ أساسيا وهو مبدأ استقلال القضاء هو الذي يؤسس لدولة الحق وسيادة القانون والتفريق بين السلطات وكانت تونس سباقة إليه بثمانمائة سنة قبل منتسكيو وفولتير. ولكن أين عرب اليوم من عرب الأمس؟ أين اندثر تراثهم الفكري والسياسي ونحن نسبح ضد تيار البشرية ونعود أميالا إلى جاهلية العقل والروح فأصبحنا بعد ذلك الربيع في صقيع مخيف تتقاسمنا الدول وتنهش بقايانا على مذبح تاريخنا المجيد وعزنا العتيد !
إن أفضل خدمة نقدمها للشعوب العربية هي أن ننقذها من الضياع والبؤس ونعيد تأسيسها على هويتها الحضارية وأن نغزو المستقبل مع الغازين وأن نعتز بأمجادنا ونرفع رؤوسنا بها عالية قبل أن نطالب غيرنا بالاعتراف بأفضالنا عليهم ... وهي أفضال حقيقية وموثقة تماما كتراجعنا المشين وتخلفنا المبرمج.