عرض ـ حسام محمود:
صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب تحت عنوان (أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار) كقراءات في الخطاب العربي المعاصر لمؤلفه هاني نسيرة حول نهضة العرب المنشودة , والتحديات التى تواجه العرب فى العصر الحديث , وكيفية استرجاع الماضى بلغة وعبق المستقبل ورحيق الحاضر . حيث يلقى الضوء على تأثير تعاقب السنوات والعقود والقرون على رسم خريطة جديدة ومستقبل مغاير للعالمين العربي والإسلامي ، فى حين يحمل مثقفو العرب رسالات مهمة لمعالجة اطروحات العولمة فى العصر الحديث على الصعيد الاقليمى . فالعالم العربي الذي كان مع محيطه الإسلامي أوسع مركزا للحضارة العالمية , والأكثر تقدما في القرون الأربعة التي تلت الفتوحات الإسلامية , بدا اليوم متأخرا يحاول السير لكن في بطء خلف النهضة الغربية المتسارعة , ثم صارت بعض أقطاره تسابق الزمن بإمكانيات متباينة لكنها مبشرة بالخير كى لا تكون مهمشة فى محاولة لمواكبة مسيرة الحضارة العالمية التى أصبح الغرب يقودها مع التراجع العربى الملحوظ.

نهضة مرتعشة
يعيش العرب حاليا امتدادا لنهضة متوترة على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية ، حيث تشابكت المسارات الفكرية , وتشرذمت الجهود التى تبذر بذور الثقافة المستنيرة , فى حين تنمو جذور الفتن كالاشواك لتقف فى طريق النهضة المرجوة . فالعرب يبحثون عن طوق نجاة من أزماتهم السياسية والاقتصادية والفكرية فى عالم الحداثة لعلهم يصلون للنهضة التائهة التى لا مناص عنها للنجاة من شفا الانهيار . وهناك معالم للنهضة المتوترة في الخطاب العربي المعاصر كمحاولة للوصول عبر التحليل الموضوعي إلى قناعات علمية لحلها بعد التخلص من هيمنة العقلية السحرية في التفكير , والتي يرى الليبراليون خلالها الديمقراطية مفتاحا حقيقيا لحل كل المشاكل المعاصرة . وتبدو رغبة دول العالم الثالث فى القفز بقوة فوق التحديات الراهنة خاصة على الصعيدين السياسى والاقتصادى عبر نهضة مهتزة الآفاق بعقلية يراها القوميون في الوحدة , ويراها القطبيون والجهاديون في الحاكمية . فالنهضة لغة لكل العصور تتجاذبها أطراف عديدة بين رغبة فى التغيير وحذر من التبديل عبر اتجاهين : اتجاه راديكالي يرى في الخارج شرا لا يأتي بخير , بل ويحرم الاقتباس منه ، واتجاه إصلاحي لا يلقى بالمسئولية على غيره رغم تحفظه على كثير من ممارسات الآخر إلا أنه يفرق بين الاستفادة من تجربة تفوقه وأطروحاته لتجاوز التخلف والتشرذم . وهناك أيضا عامل مهم أثر فى الثقافة والفكر سواء للحكام أو المواطنين العرب والمسلمين بالمنطقة , حيث اصطدمت التيارات السياسية المعتدلة , والخطط المنهجية للنهضة مع فكر الجماعات الارهابية وثقافة التطرف الدموى , مما أدى إلى ظهور أشكال من حالات التشدد التى تصل لحد الرغبة فى القتل والتلذذ به , وتنفيذ عمليات تفجيرية وانتحارية كانها الهدف من الحياة لإشاعة التخريب بالمتاجرة بالدين , وهو ما أسفر عن صراع استراتيجى فكرى دائم بين الاعتدال والتطرف , وبين رغبة الحكومات فى ضمان الأمن والاستقرار لبناء الحضارة والفكر والتقدم , وأهواء الجماعات الارهابية وفى مقدمتها تنظيم القاعدة , حيث بات هذا التنظيم قد دخل فى حالة اللاوضوح القيادى كالسرطان ينتشر أورامه فى بقاع عديدة داخل وخارج المنطقة العربية , وبرز من خلال هجمات الحادى عشر من سبتمبر كنموذج صارخ لرفضه للغرب والمدنية والتقدم حتى لو كان بلغة سفك دماء الأبرياء , وحذت حذوه جماعات ارهابية أخرى ليكون هناك صراع أكبر بين رغبة الشعوب العربية وحتى الغربية فى العيش بأمان , وبين هذه العصابات التى انبرت فى تبرير جرائمها بأكاذيب واهبة جعلت الشعوب تلفظها وتكرهها كرهها للموت والفناء , ولا تجد عونا لها سوى عن طريق المرتزقة والمجرمين والمأجورين لتصطدم رغبة الشعوب العربية والاسلامية فى النهضة بثقافات تخريب جماعات التطرف , وبفكر الارهاب الذى يكره الحضارة بل ويجرم المدنية ويطمس التقدم ليزداد الاهتزاز وتيرة , وتضعف معانى النهضة المرجوة نحو الحضارة العصرية والحداثة خلال الانشغال الاضطرارى بمعارك فكرية وسياسية وحتى فلسفية ضد الارهاب , فالمعضلة ليست أمنية للقضاء على الإرهاب بل بتجفيف موارده الاقتصادية والفكرية , وتغليب ثقافة الاعتدال على التطرف.

تخبط وجدانى
هناك سؤال مطروح حول سر تأخر العالمين العربى والاسلامى عن النهضة المرجوة فى العصر الحديث ، وقد انقسمت التيارات الفكرية حسب تصور النهضة إلى تيار ليبرالي تبناه محمد عبده , ومن بعده الآخذين بأفكاره ، وآخر اشتراكي ولد مع تأسيس أول حزب شيوعي مصري عام 1922 , وبرز يحاول العيش بوتيرة عالم اليوم من خلال أطلال البحث عن دور اجتماعى واقتصادى . وتيار قومي ولد ردا على حركة التتريك في الدولة العثمانية , واستمر ليركز على صبغة الشعوب وقوميتها بدلا من طمس الهوية الثقافية للدولة بغزوها فكريا من الخارج أو حتى استيراد ثقافات أجنبية ، وإلى جانب ذلك كانت هناك تيارات هجين تحاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ، وهي تختلف عن حركات التجديد الإسلامي في إفراطها في التأويل ، وكان الملمح الأهم لهذه التيارات التوفيقية إعطاؤها اهتماما للبعد الديني في قضيتي مواجهة الغرب والتنمية . وتم استدعاء قضية المرجعية من خلال خواطر الأدباء عن طريق تأجيج القيم الحاكمة للسلوك الفردي والجماعي ، فهي الأصل المعرفي الذي تستلهم منه الأخلاق والسلوك ، وتستلهم منه التشريعات وقوانين الإدارة العامة في المجتمعات . ويرتبط تصور المرجعية بنظرية المعرفة ، فبينما المرجعية الإسلامية على أولوية السند الديني في تحديد المواقف والاتجاهات الفكرية العامة بينما العلمانية تقوم على تجاهل هذا العنصر .

معارك فكرية
لقد تحولت تيارات الفكر العربي المعاصر من بروز دعاة الديمقراطية والمدافعين عنها ، وأكثر الناس استياء منها لأنهم اكتشفوا أنها لم تأت إلا بأعدائها , وبعض تلك التيارات الإصلاحية التى لم تتحول بفضل ترددها هذا إلي ظاهرة ، ويتتبع أثر ذلك التردد أو التبرؤ في أفكار كل من قاسم أمين وعلي عبد الرازق وحتى طه حسين ، وكذلك العقاد الذي يصفه بالشخصية المركبة ، والشكل الفلسفي للتحول عند عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ، أو الشكل النقدي العنيف للأفكار السابقة مثلما حدث مع سيد قطب ، وأخيرا تحولات ذات خلفية عصرية سعت لاكتشاف جمل عصرية للثقافة الإسلامية الدينية وسار عليها طارق البشري وعبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة . وعلى حدود التيارات الفكرية كانت تحدث التأثيرات والتحولات من اليمين إلى اليسار ، وكانت كذلك المراجعات وكان مسار النهضة يزداد توترا ، ولعل الأزمات فى الوطن العربى كثيرة منها أزمة الهوية والديمقراطية والمواطنة والطائفية الأمر الذى دفع إلى تسمية النهضة العربية باسم النهضة المعوقة لأنها حققت كثيرا من أهدافها , ولم يعد ممكنا العودة عنها فى مجالات الاجتماع والمرأة والنظم السياسية والتعليم , إلا أنه رغم التقدم الذى وصلت إليه لا يمكن القول إن تلك النهضة لم تدرك مقام التحقق والوجود . وكلما نشط التبشير العربى والغربى بربيع ديمقراطى عربى يخرجها نحو العالمية يحدث تراجع مفاجئ ، فليس هناك عمل من أجل الديمقراطية , وإنما تراجع مستمر ومخيف ، فكلما اشتدت اللحظة تأزما اشتدت الهوية انتفاخا حتى تنفجر بالمعارك الفكرية والعسكرية مما يزيد النهضة توترا بمستقبل تائه تبزغ فيه الطائفية والنزعات العرقية , وتبدو فى الآفاق أشكال من النهضة لكن السلوك الاستهلاكى تجاه المنتجات الاجنبية وليس الوطنية يفقد المرء هويته الاقتصادية الوطنية بتفضيله للمستورد , ومع مرور الزمن يصبح الفرد العربى راغبا فى التشبه بالمظهر الغربى فى الملبس والمأكل والمسكن والشهوات ليفقد شيئا فشيئا هويته القومية كاملة لصالح الغرب وأميركا .

صدام ثقافى
تطرق الكثيرون من المثقفين إلى فكر السلفية المعاصرة ومنطق الفرقة الناجية , وصدام الحضارات إسلاميا ، وحرب الأفكار كأسلحة ناقصة ، وحملة السكينة والمناصحة كنموذج لحرب الأفكار وصراع الثقافات , وبحث مفهوم الهوية بين الثبات والتحول وصدام الحضارات ، بينما يبرز مفهوم الليبرالية الجديدة من خلال حرب الأفكار وصراعات الإصلاحيين والليبراليين والقوميين والراديكاليين في الوطن العربي . ومن اللافت توتر العلاقات العربية الغربية بسبب جموح الافكار الاجنبية وخلفية الاستعمار واصطدام أفكار الغرب بالثقافة الاسلامية العريقة , وعدم حسم الأسئلة في الفكر العربي المعاصر ، والإصلاحية الإسلامية , وكبوة الإصلاح بين الأفغاني ومحمد عبده , ومفهوم الجهاد من محمد عبده إلى محمد عبد السلام فرج . وهناك ثمة تصورات جديدة توالدت لم يعرفها الفكر الإسلامي على مدار تاريخه فى مقدمتها الدعوة إلى تعطيل أحكام الشريعة أو تطبيق القوانين الوضعية ، وهو ما جعل شيوخا يدخلون فى جدال محموم مع بعض الحكام والسياسيين العرب , وتطور الموقف إلى بروز خلافات عميقة حول الثقافة الدينية من خلال مفاهيم تطبيق نماذج اسلامية على الحياة , وصلت إلى حد التراشق بالاتهامات التى تجلت بإلقاء التهم بالكفر والالحاد . كما شغل المثقفون العرب سؤال الهوية منذ عصور النهضة الحديثة , ورؤية العالم متعدد المستويات , وهو ما اتضح في صياغة أربعة مستويات هى : مستويات الاكتفائي ، الانفتاحي الإصلاحي ، النقدي المضاد ، والعلماني .