زهير ماجد:
كان الوقت ظهرا في السادس من اكتوبر 1973في بيروت، عاصمة لبنان، حين هبط الصحافي الياس سحاب من الطابق العلوي ومعه مذياع صغير يعمل على البطارية يذيع مارشات عسكرية .. وبهلع قال: بدأت الحرب .. ـ واية حرب، سألنا.. اجاب: القوات المصرية عبرت قناة السويس، والسورية عبرت الجولان. اليوم فقط وبعد كل تلك المدة اعود بالذاكرة لعدم اهتمامنا في تلك اللحظات كردة فعل على الخبر، كل مافعلناه اننا صمتنا، اذ لم نصدق ماجرى، وان جيش مصر عبر وسوريا ايضا. وسبب ذلك، ان موت عبد الناصر قلل من الحماس الشعبي بامكانية العبور، وكان الظن ان الخطط التي بناها الزعيم الراحل رحلت مع رحيله، كانت الحرب تتعاظم وكانت يدنا على قلوبنا بعدما صدقنا .. وبين كلام معمر القذافي آنذاك من انها حرب تحريك وليس تحرير، ومجريات المعارك على الجبهات الساخنة، عدنا الى التساؤل، في حين كانت الحرب ماضية بلا توقف، وكل يوم اضافي كنا نخاف على نتائجها ان تصيبنا بهزيمة أخرى ستكون هذه المرة اصعب بكثير من تلك التي وقعت في عام 1967 .
ظلت الافكار تتداعى كلما طلع يوم جديد على المعركة، فقد كانت الاخبار تأتي تباعا من الجبهات ان الجيش المصري توقف بعد عدة كيلومترات داخل سيناء، لكن اعجابنا بكيفية اختراق المانع برليف على الضفة الاخرى لقناة السويس، جعلنا نؤمن بانها الحرب التي ننتظر ..
لكن أملنا خاب حين بدأ الحديث عن عبور جيش اسرائيلي الى الضفة الغربية من القناة بقيادة جنرال يدعى ارييل شارون .. ومن خلال هذه الدفرسوار كما سيسمي لاحقا بدأت ملامح الحرب تظهر بشكلها النهائي، في وقت لم نكن نعلم فيه لانحن ولا غيرنا ان خلافات بين الرئيس انور السادات وسعد الدين الشاذلي وربما مع آخرين قد اشتعلت، ولا بد ان العقل العسكري الذي يتمتع به الشاذلي اصطدم بالخطط المخفية التي غيبها السادات عن القيادة العسكرية. وفي اليوم الذي توقفت فيه الحرب وانتقلت الى خيمة الكيلو 101 حيث الحوار المباشر بين الاسرائيليين العسكريين ومثيلهم من المصريين، تأكد لنا انها لعبة ماهرة دخلت فيها عناصر متعددة دفعت الى اجتياز قناة السويس كمشروع نهائي، وانها بالفعل حرب تحريك ليس الا .. بل لم يكن لأحد ان يتوقع ان تنتج عن هذه الحرب تسوية سياسية بين مصر واسرائيل تخرج هذا القطر العربي الهام جدا من جبهة الصراع ضد العدو الاسرائيلي، فكانت اتفاقية كامب ديفيد.
يبدو ان السنين مهما تواصل عدادها لاتمحي صورة الحقيقة .. خصوصا عندما نكون في حضرة صراع كبير وتاريخي بين العرب واسرائيل، وبشكل خاص ان مصر كانت رائدة العمل القومي العربي في هذا الصراع، فكيف ستكون عليه الأمور عندما تطفيء محركاتها في هذا الاتجاه .. لاشك ان المنطقة كلها تصاب بالعتم، والضمور، وبالاسى على واقع سيتحمله بقية العرب وقد لاتقوم لهم قائمة فيه.
كيفية الخروج من الهزيمة
كان التفكير بمحو آثار العدوان الشغل الشاغل للرئيس جمال عبد الناصر منذ اللحظات الاولى لعودته عن استقالته في العاشر من يونيو 1967. عندما وقعت عينه بعين عبد الغني الجمصي بعدما كان ارسل وراءه من اجل اعادة تدريب الجيش المصري واشرافه عليه، بكى الرجلان، لكن الأمل ظل رابطا بينهما، فقد كانت مصر حاضرة في البال، والأمة كلها تنتظر لحظة الخروج الى الثأر ليس بمعناه العشائري .. وفي كتابه حرب الاستنزاف يقر اللواء محمد فوزي وزير الحربية ان الرئيس عبد الناصر كان مصرا على الحرب وعلى جولة أخرى وكان يعد العدة لها ويشرف على كل صغيرة وكبيرة، ولا يترك يوما الا ويتابع على مدار الساعة مايجري فيه من تدريبات على اكثر من صعيد وشكل.
لم يستطع عبد الناصر هضم الخسارة الموجعة التي تسببت فيها عوامل ابرزها الاسترخاء وعدم الجدية، فقد ضاعت مصر وضاع العرب نتيجة تلك العوامل، لكن الرئيس المصري عبد الناصر اصر على ان لايتجاوز تأهيل الجيش اكثر من سنوات ست وفي اقصى الحالات عشر، وان خطة بدر التي نفذها الجيش المصري اثناء العبور في اكتوبر، هي من صنيعة المرحلة الناصرية. وعندما رحل عام 1970 كان قد انجز تقدما كبيرا في اعادة تأهيل الجيش وتجهيزه.
وفي الوقت نفسه كان الشعب المصري يضغط على قيادته الجديدة ممثلة بالرئيس انور السادات، فقد كانت الهمهمات الاجتماعية في ذروة احتدامها، وفي العام الذي نفذت فيه الحرب كان الاحساس المصري قد بلغ حده الاقصى، مما قد ينبيء بثورة اجتماعية كبرى قد تجتاح مصر من اقصاها الى اقصاها.
وكان الجيش المصري ايضا قد اصبح كفوءا، وبالتالي كان هنالك خوف من حالة ارباك لديه، او حالة تململ او ربما حصول تغيير نتيجة الضغط الذي تمارسه القاعدة على القيادة العسكرية.
عوامل عدة كان لابد من اخذها بعين الاعتبار وهي التي اجتمعت لتجعل من المعركة ضرورة، خصوصا وان التدريبات التي نفذت بسرية تامة حول شكل العبور كانت قد انجزت تماما واصبحت في كامل جهوزيتها.
وكان الاهم ايضا، كيفية تجهيز التلاحم بين الجبهتين المصرية والسورية .. فاذا كانت هذه هي حال مصر، فان سوريا لم تكن بعيدة عن هذا الوضع ايضا، ولذلك جرى تنسيق في منتهى السرية بينهما، بل كان يلتقي الضباط الكبار المصريون والسوريون خارج مصر وداخلها بشكل غير ملفت للنظر، بل وايضا باللباس غير العسكري، ووقتها جرت الاتفاقات الكبرى على المعركة وعلى توقيتها وعلى تفاصيلها، وكيف ستكون عليه الشمس لحظة الهجوم على الجبهتين حيث لا فاصل زمني بين الهجومين، بل توقيت واحد.
اليوم الموعود
بدأت الحرب على الجبهة المصرية بضربة جوية مركزة وهاجمت اهدافها في سيناء وتمكنت من مفاجأة القوات الاسرائيلية تماما، نفذت معظم اهداف الضربة بنجاح دون تدخل القوات الجوية الاسرائيلية .. وكان واضحا ان معظم الجنود الاسرائيليين كانوا بلباس رياضي غير متوقعين لأية عملية عسكرية من قبل المصريين .. ثم بوشر التمهيد النيراني باشتراك 2000 قطعة مدفعية مباشرة وغير مباشرة وصاروخية لمدة 53 دقيقة .. وتحت ستر النيران الكثيفة تم عبور جماعات الصاعقة ومفارز اقتناص الدبابات .. ثم بدأ اقتحام بالاتساق الاولى المشاة حيث تسلقت الساتر التراتبي واحتلته وهاجمت النقاط الحصينة وفي اقل من 6 ساعات اتمت الفرق المشاة الخمسة الاقتحام على مواجهة 170 كلم بقوة 80 الف مقاتل في 12 موجة عبور. وبمجرد تجهيز المعابر عبرت اللواءات المدرعة والميكانيكية يومي 7 و 8 اكتوبر الى الشرق، وفي نهاية يوم 9 اكتوبر تحققت المهمة المباشرة بعمق 9 الى 10 كلم شرق القناة .. تكدبت القوت الاسرائيلية المدرعة والميكانيكية خسائر جسيمة عند قيامها بالهجمات المضادة.
في تلك اللحظات المصيرية التي كانت تخوض فيها مصر حربها المجيدة، كانت سوريا قد تحركت بسرعة حين قام طيرانها في الساعة المحددة بغارات في عمق الجولان، في الوقت الذي كانت فيه أكثر من الف مدفعية تدك المواقع الحصينة الاسرائيلية، فيما تقدمت عشرات الدبابات لتأخذ طريقها بسرعة كبيرة وتصل الى ضفة بحيرة طبرية .. وكان من الواضح مدى خوف الاسرائيلي من الجبهة السورية لأنها تشرف على عمقه تماما فيما مصر بعيدة عنه.
كانت الحرب واضحة لكن غموضا فيها بددته الثغرة التي اخترقتها اسرائيل وتناولت عمق الجيش المصري الثالث. هل هي ثغرة مفتعلة ام خطأ في الحسابات .. فلقد تعددت الروايات حول تلك الثغرة وتقدم قوات ارييل شارون الى الضفة الغربية من القناة من سلسلة من الانتصارات التي حققها الجيش المصري منذ السادس من اكتوبر ووضحت العلاقات بين القادة خاصة بين المشير احمد اسماعيل والفريق سعد الدين الشاذلي لاسباب بدت لاعلاقة لها بميدان الحرب، مثلما لم يتحمل الرئيس السادات كلمات الشاذلي حول كيفية تجاوز الثغرة او الانصات لما جاء في رسالة الرئيس السوري حافظ الاسد اليه التي اشار فيها الى امكانية تدمير القوات الاسرائيلية، ولأن السادات كانت له حسابات اخرى وانشغل بقناته السرية مع وزير الخارجية الاميركية هنري كيسنجر تعقدت الامور ولم تصل الى بر الامان والقصة في مجملها تستحق ان تروى.
اذا عدنا الى الكاتب محمد حسنين هيكل في ماكتبه حول وقائع تلك الحرب، فيقول ان كان يوم 15 اكتوبر 1973 واحدا من تلك الايام التي يصدق عليها الوصف المشهور ضباب الحرب والمقصود به هو تلك الايام التي تلي او تسبق المعارك الكبرى التي ينشغل فيها الاطراف باعادة حساباتهم وبتأمل خططهم، وفي الفكير فيما يجب او يمكن ان يحتمل، وكان الرئيس السادات صباح ذلك اليوم قد استوعب الصدمة العسكرية التي تلقاها بالامس، وكان الموقف على الجبهة العسكرية مشوشا هو الآخر، فالهجوم المصري بالامس لم ينجح، والهجوم الاسرائيلي لم يكن قد بدأ بعد، وفي تل ابيب اجتمع مجلس الوزراء المصغر في الساعة السابعة من صباح يوم 10 اكتوبر وكان امام المجتمعين تقرير من الجنرال بارليف يقول فيه ان القوات جاهزة وان الموعد الذي تقرر البدء الهجوم الاسرائيلي المضاد هو الساعة السابعة مساء وان اختراق المفصل مابين الجيشين الثاني والثالث لفتح الثغرة بينهما الى الغرب سوف يجري في منطقة الدفرسوار.
وفي لحظة من اللحظات كان احتمال فشل العبور ماثلا امام مجلس الوزراء الاسرائيلي، وقد وصلت اليه توصية من الجنرال ديان يقترح وقف العملية وصرف النظر عنها، ولكن الجنرال بارليف ابدى معارضة شديدة لوقف العملية، وعمد الى زميله الجنرال ارييل شارون بالتقدم بمدرعاته مهما كانت المقاومة امامه بحيث يتحقق تأمين رأس جسر يمد عليه ولو كوبري متحركا حتى تمكن المدرعات من العبور ، وعند الفجر انفض اجتماع مجلس الوزراء الاسرائيلي بعد ان تأكد ان عملية شارون تمضي في طريقها .
كان الرئيس السادات حتى 16 اكتوبر يستعد لالقاء خطابه في مجلس الشعب، وفي نفس التوقيت كانت رئيسة وزراء اسرائيل جولدا مائير تعلن في الكنسيت الاسرائيلي ان القوت الاسرائيلية تحارب شرقي وغرب قناة السويس، وفي المساء التقى الرئيس السادات ورئيس الوزراء السوفياتي كوسيجين ولم يتعرض كلاهما الى عملية الاختراق الاسرائيلية وتم الاتفاق على تأجيل الاجتماع الى صباح غد، والرئيس السادات يعتقد في سريرة نفسه انه سوف يجيء في الغد ومعه موقف عسكري افضل يتحقق به طرد قوات الثغرة، وبعد المقابلة مع كوسيجين ابلغ السادات باتصال هاتفي من الفريق احمد اسماعيل اثناء اللقاء مع كوسيجين وترك له رسالة ان يتصل به في المركز رقم 01 ورأى الرئيس اختصار الاجراءات والتوجه الى المركز.
ويكمل هيكل، كان وصوله في وقته تماما، فقد كانت الخلافات متفجرة بين وزير الحربية والقائد العام السادات وبين رئيس الاركان سعد الدين الشاذلي، وكانت نقطة التفجر هي تصادم الاراء حول الطريقة التي يمكن بها التعامل مع ثغرة الاختراق الدفرسوار الذي قامت به القوات الاسرائيلية، فالفريق احمد اسماعيل من ناحية يرى من الافضل ضرب الثغرة من الشرق بمعنى سد الفتحة التي تتدفق منها المدرعات الاسرائيلية الى غرب القناة، والفريق الشاذلي من ناحية اخرى يرى ان قطع الثغرة عن سيناء من الغرب اكثر فاعلية لكن ذلك يقضي سحب الفرقة المدرعة الرابعة من سيناء الى غرب القناة لتقوم بهذه المهمة، وبلغ الخلاف بين الاثنين مبلغا خطيرا خصوصا ان الفريق الشاذلي كان قد اقترح في اليوم السابق على الثغرة عملية من هذا النوع لاعادة التوازن الى الجبهة بعد فشل تطوير الهجوم المصري الى المضائق. وادت حدة الخلافات بين الرجلين الى موقف شديد الحرج لبقية القادة من هيئة الاركان وكان الأمر بحتاج الى حكم اعلى منهما وهكذا كان وصول الرئيس السادات في اللحظة الحاسمة تماما وبدا كلاهما يعرض وجهة نظره امام الرئيس وكان الفريق احمد اسماعيل هو الاكثر رجاحة في هذه اللحظة، لأي مراقب ينظر للموقف نظر شاملة فالقائد العام لم يكن ينظر للموضوع من وجهة نظر العمليات فقط، وانما كانت نظرته اشمل، وقد قال بوضوح انه اذا بدأ سحب قوات الفرقة المدرعة الى غرب القناة في هذه الساعات فان القوات كلها في الشرق سوف تشعر بحركتها، وقد تتصور، خصوصا مع انتشار اخبار الثغرة ان تلك مقدمة لانسحاب عام يقوم به الجيش المصري من الشرق وبالتالي فان هذه القوات سوف تبدأ راضية او كارهة في التأثر بعملية الانسحاب وهذا قد يعيد اليها اجواء سنة 1967.
ويستطرد هيكل، كان الفريق احمد اسماعيل على حق، ففي تلك اللحظات وبصرف النظر عن اية اراء سابقة، فان الاعتبارات النفسية للقوات كان لابد ان يكون لها الغلبة في اي حساب تخطيط لطريقة مواجهة الثغرة، لكن المشكلة الكاملة ان الاختلاف الذي احتدم بين الرجلين وتفجر، اخرج ماكان مكتوما في صدر كل منهما تجاه الآخر من تأثرات علامقتهما السابقة، وكان منطقيا ان ينحاز الرئيس السادات الى صف الفريق احمد اسماعيل لكنه من تأثير الضغوط الواقعة عليه ترك انحيازه يتحول الى اهانة لرئيس الاركان، فقد ثار ثورة عارمة، وفقد اعصابه واخذ يصرخ بعصبية قائلا انه لايريد ان يسمع من الشاذلي هذه الاقتراحات مرة ثانية، واذا سمعها فسوف يقدمه الى مجلس عسكري لمحاكمته، وهي واقعة ذكرها الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته.
وفي 17 اكتوبر تلقى الرئيس السادات من مكتبه للشؤون العسكرية تقارير اولية عما يجري في ميدان القتال، كان اثرها المبدئي عليه هو ان طلب اخطار كو سيجين برجائه تأجيل الاجتماع المتفق عليه صباح اليوم الى بعد الظهر فلم يكن في مقدوره من وجهة نظره ان يجلس مع كوسجين ويتفاوض باعصاب هادئة .. وذهب السادات بعد الظهر الى موعده مع كوسيجين، ولم يكن في احسن احواله، فالثغرة التي استطاعت بها القوات الاسرائيلية اختراق الجبهة المصرية في الدفراسوار لم تغلق، والعمليات في المنطقة يتسع نطاقها، والطيران الاسرائيلي يركز كل نشاطه على القوات المصرية التي تتصدى عملية حصر ومحاولة تطويق جيب الاختراق الاسرائيلي، وقد أحس الرئيس السادات ان هذه الحالة تضعف موقفه امام كوسجين ولم يكن من حجم الحقائق التي توفرت لدى ضيفه من اجتماعاته واتصالاته في الصباح وهكذا فانه دخل الى اجتماع مع رئيس الوزراء السوفيتي.
يضيف هيكل، وفي 18 اكتوبر جاء عدد من الضباط الشبان العاملين في القيادة العامة الى قصر الطاهرة لمقابلة السادات الذي كان نائما، وامام اصرار الضباط ايقظت السكرتارية الرئيس الذي استجمع اعصابه وتوجه الى الصالون وقال له الضباط انهم جميعا من ضباط القيادة، وقد لجأوا اليه باعتباره القائد الاعلى عندما شعروا طوال الليل ان القيادة العامة للقوات المسلحة في حالة انقسام تجاه ما يمكن عمله لوقف الثغرة، وفي حالة عجز عن مواجهتها، ومصير البلد في خطر ومصير وقاتها المسلحة معرض لكارثة، وانتهى اللقاء وتوجه السادات الى لقائه الاخير مع رئيس الوزراء السوفياتي ولم يطل اجتماعهما اكثر من ساعة تم الاتفاق خلالها على نقطتين هما استعداد مصر لقبول وقف اطلاق النار في مقابل انسحاب اسرائيل من الاراضي المحتلة طبقا للقرار 242، وغادر السادات قصر الطاهرة قاصدا المركز 01 وقد استمع الى تقرير من الفريق احمد اسماعيل ثم طلب من الفريق سعد الدين الشاذلي ان يتحرك فورا الى الجبهة وان يتولى بنفسه وضع خريطة على الطبيعة لمواجهة تطورات الموقف في الثغرة.
رواية اخرى للشاذلي يقول فيها: وقد ادعى السادات في مذكراته باني عدت من الجبهة منهارا يوم 19 اكتوبر وانني طالبت بسحب قواتنا من شرق القناة لان الغرب مهدد، ويؤسفني بان اقول، لقد كنا تسعة اشخاص، مات واحد ومازال الثمانية الاخرون احياء يستطيع ان يشهد بصدق مايدعيه السادات، لقد طالبت حقا بسحب جزء من قواتنا من الشرق الى الغرب وكانت مطالبتي بهذه العملية يوم 19 اكتوبر هي خامس محاولة جادة لانقاذ الموقف.
الكيلو 101 وما بعده
حدث اختراق سياسي كبير للجبهة المصرية حين اتجهت الاهتمامات الى وقف لاطلاق النار فتم اختيار عبد الغني الجمصي من الجانب المصري لقيادة مرحلة سميت بمرحلة الكيلو 101 وهي محادثات ذات طابع عسكري بين مصر واسرائيل باشراف الامم المتحدة للوصول الى تحديد خطوط وقف النار في اعقاب الحرب تنفيذا لقرار مجلس الامن الدولي رقم 338 في هذا الصدد .. كانما كان مخطط هذا الحرب ان تصل الى هذه النقطة ، بل كأنها خططت في الاساس على هذا الاتجاه .. ورغم المعروف عن الجمصي من انه مهندس حرب اكتوبر وافضل من اضافوا للتكتيك العسكري على مستوى العالم ، الا انه رفض في البداية ان يكون ممثلا لمصر في المفاوضات المذكورة لكنه ارغم على ذلك .. وحصل ماكان متوقعا حين التف وزير الخارجية الاميركي كيسنجر على المفاوضات والجمصي تحديدا وتمكن من سحب الف مدرعة مصرية من سيناء اضافة الى 70 الف جندي مصري ايضا.
ويبدو ان التطورات التي لحقت بهذه المفاوضات اخذت الى ماهو ابعد حين ابدى السادات لاحقا استعداده للذهاب الى القدس، ممارفع وتيرة الانقسام العربي على الفور فتم انشاء جبهة الصمود والتصدي من كل من سوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن الديمقراطية الشعبية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وعقد اول الجتماع لهذه الجبهة في ليبيا في 2 ديسمبر 1977 قرروا على اثره تجميد علاقتهم بمصر بهدف عزلها تحت تقدير منها بان تأخذ موافقة العرب على طرد مصر من الجامعة العربية وقطع علاقتهم بها ، فقاطعوها بالفعل ماعدا السودان وسلطنة عمان. لم يكن لهذه الجبهة اي تأثير لاحق على وقائع الأمور، حيث تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر واسرائيل في 17 سبتمر من العام 1978 ، وبعدها تغيرت الدنيا، ثم ان هذه الجبهة ذاتها انهارت تقريبا عند قيام الثورة الاسلامية في ايران ثم مهاجمة صدام حسين لايران الجديدة.
خروج مصر من المعادلة كان له تأثير على العمل القومي العربي ومانتج عنه لاحقا من اجتياح للبنان عام 1982. لكن الحقيقة التي لاتغرب عن البال، ان سوريا لم توقف قتالها بعد ان خرجت مصر من معادلة الحرب، بل قامت هنالك حرب استنزاف استمرت الى شهر مايو من العام 1974 حيث تمت الموافقة بعدها على وقف للنار، فيما ظلت الجولان تقريبا بيد اسرائيل فيما تم تحرير القنيطرة عاصمة الجولان.
عود على بدء
كان المتوقع ان تكون حرب اكتوبر، ليس آخر الحروب بين العرب واسرائيل، بل الحرب التي تغير وجه الصراع بان تعطيه قوة اضافية، خصوصا وانها اثبتت كفاءة الجيش العربي سواء في مصر وسوريا وقدرته الفائقة على خوض الحرب تحت اي مسمى كان وتحت اي ظرف كان، وخصوصا اذا مانظرنا على صعوبة تلك الحرب من حيث اجتياز اكبر مانع مائي في العالم.
لكن من المؤسف ان هذه الحرب راحت نتائجها في اتجاه سياسي، لم تستطع الهزيمة الكبرى في العام 1967 من اخذها اليه والتي رغم مرارتها الساحقة ارتفعت من خلالها اللاءات الثلاث المعروفة ان لاصلح ولا تفاوض ولااعتراف باسرائيل.
اذا كانت الحروب الكلاسيكية ضد العدو الصهيوني يصعب خوضها لاسباب قدرة اسرائيل على خوض مثل تلك الحروب والانتصار فيها ، فقد اثبتت حروب المقاومات جدواها وقدرتها على تحقيق معادلات جديدة . فاذا نظرنا الى الفعل المقاوم الذي خاضه حزب الله على مدار 18 سنة وادى الى هزيمة لاسرائيل باسنحباها من جنوب لبنان ، فان حرب العام 2006 اثبت قدرة هذا النوع من الحروب على تحقيق الهزيمة لاسرائيل ضمن مقاييس خصوصية القوة الممانعة لها . واثبت ايضا بما لايدع مجالا للشك ان العدوان الاسرايلي الأخير على غزة قد اثبت فشله لأن المقاومة الغزاوية خاضت حربها بما يتوافق مع مفهوم حرب العام 2006 ، وبذلك هزيمت اسرائيل لأنها لم تربح الحرب ولم تستطع بريا ان تصل الى اهدافها بشكل مطلق ، وهي لم تصدق ان يعلن وقف للنار حتى تسحب قواتها من كل المواقع.
اذا كان هنالك اثباتات دامغة بقدرة المقاومة على تحقيق نقلة نوعية في الصراع ، فلماذا لاتتغير مفاهيم الجيوش الكلاسيكية ان يكون لديها ماخبرته المقاومات على مر تاريخها والذي انجز انتصارات محققة.