في الوقت الذي كان بعض من كتاب الأردن وفلسطين يناقشون أبعاد الكتابة الساخرة في عالمنا العربي يوم 12 سبتمبر الماضي، على هامش فعاليات معرض عمَّان الدولي للكتاب، داهم الموت فراش أحد أبرز الكتاب الساخرين في عالمنا العربي؛ لينزع عن جسده روحه الساخرة، وإلى الأبد. وما هي إلا مفارقة من مفارقات وجودنا الإنساني الملغز !
لقد أحبتته، الراحل أحمد رجب، الذي كان من هول صدماته لنا فيما نراه بديهيات حياتنا ننشطر بين حنجرة تنطلق قهقهاتها ودماغ تتأمل بأسى ما يكتب.
في واحدة من قصصه التي تحولت إلى سهرة تليفزيونية، أظن ـ إن لم تخني ذاكرتي ـ كان عنوانها "علي بابا" يستهزئ بما استقر في مخيلتنا عصرا وراء عصر، ألم نر في "علي بابا" هذا شخصا طيبا كافأه ربه على جور أخيه وزوجة أخيه، بالعثور على كنز من الذهب واللآلئ في مغارة عصابة الأربعين حرامي ! كان علي بابا حطابا خرج إلى الغابة بحثا عن رزقه، لكنه سمع ضجيجا لأشخاص عديدين، سرعان ما هدأ ليصيح أحدهم، وهو يواجه باب مغارة: افتح ياسمسم، لينشق جدار المغارة، ويدلفون إلى داخلها وهم يغنون ويهللون.
اندهش علي بابا مما يحدث، جاء في اليوم التالي، وصاح مثلما صاح قائدهم: افتح يا سمسم ! لينفرج الحائط، تحسس علي بابا طريقه داخل المغارة؛ ليجد كنوزا من الذهب واللآلئ، فحمل بعضا منها إلى بيته، وباقي القصة نعرفها جميعا!
خاصة تمكنه بمساعدة جاريته مرجانة من قتل كل أفراد العصابة، فكيف استقر "علي بابا" في أذهاننا؟ شخصية طيبة، مستسلمة، لكن الله كافأه من حيث لا يدري بكنوز العصابة!
الكاتب أحمد رجب داهمنا بما هو مغاير للمستقر والمسلم به في أذهاننا، أن "علي بابا" هذا ليس سوى لص، لقد استولى على أموال العصابة التي نهبتها من آخرين بإغارتها على البيوت والقوافل والأسواق! المال الذي حصل عليه "علي بابا" ليس من حقه، وكان يتعين عليه أن يبلغ الوالي بأمره !
وهذا ما تنفرد به الكتابة الساخرة في أحد أهم محاورها: المفارقة التي تمتد إلى عملية التلقي، فإذا كان المتلقي يستقبل هذا النوع من الكتابة بالضحك، فمعامل التفكير داخله تستنهض قواها لتحلل وتمحص، في عملية يصحبها قدر كبير من الأسى على ما آلت إليه أحوالنا كما تجسدها الرسالة الإبداعية الساخرة، فالدمعة التي تسيل من العين تلازمها قهقهة عالية من الحنجرة، لذا يشيع في أدبياتنا عبارة "ضحك كالبكاء" ننطق بها كلما داهمنا أحد كتابنا الساخرين بأحد انبثاقاته التي تنطوي على مفارقة صارخة.
لقد كان الكاتب الأميركي مارك توين أحد أعظم الكتاب الساخرين في العالم، ولنتأمل هذا الذي قاله عن بلاده: اكتشاف أميركا كان شيئا عظيما، لكن الأعظم ألا تكتشف
حين انتهيت من كتابة عبارة كوين هذه ذيلتها بـ"." ، وسرعان ما نهرت نفسي على جريمتي البشعة، تلك "النقطة" تجرد العبارة من مدلولها شديد العمق شديد السخرية، إنها في حاجة إلى أن نذيلها بألف علامة تعجب، وبما يتلاءم مع ما تنطوي عليه من مفارقة هائلة، وكل المشاركين في الجدل الذي يشتعل في كل أنحاء العالم، خاصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن حول الدور الأميركي، انشطروا إلى فريقين، أحدهما يرى أن الوجود الأميركي على الخريطة العالمية أسهم في الإسراع بعجلة التقدم في القارات الست والقضاء على الظاهرة الاستعمارية بشكلها التقليدي، لذا يعد اكتشاف أميركا عملا عظيما، بينما يرى الفريق الآخر أن أميركا وراء انتشار كل الأوبئة التي تعاني منها البشرية، من حروب وإرهاب وفقر، فإن كان الاستعمار القديم قد ولى فقد استحدثت الولايات المتحدة استعمارا جديدا يتكئ على الهيمنة الاقتصادية والثقافية!
والفريق الأول يرى أن أميركا اكتشاف عظيم، والفريق الثاني يرى أن الأعظم ألا تكتشف ! فإذا بـ "مارك توين" بقلمه اللاذع يجمع بين المتناقضين في عبارته البليغة: اكتشاف أميركا كان شيئاً عظيماً، لكن كان الأعظم ألا تكتشف !
وربما حدث هذا في ندوة أو خلال حوار دار بينه وبين آخرين حول أضرار السجائر، حيث تساءل متظاهرا بالجدية: من قال إن الإقلاع عن التدخين أمر صعب؟ لقد سبق لي أن فعلت هذا أكثر من 50 مرة !
هل المفارقة الصارخة في عبارته في حاجة إلى شرح ؟! إن الإقلاع عن التدخين أمر صعب للغاية، والدليل أنه خاض التجربة أكثر من 50 مرة، وفي كل مرة يفشل فيعود إليها !
ولقد عرف العرب هذا النوع من الكتابة الساخرة المؤسسة على المفارقة الصارخة، ويتصدر مشهد التراث العربي في هذا الشأن أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري المعروف بـ"الجاحظ"، ويصنف شيوخ الأدب العرب قديما كتاب الجاحظ "البيان والتبيين" كأحد الأركان الرئيسية للأدب العربي، حيث يقول ابن خلدون: وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه "يقصد الأدب" أربعة كتب هي: أدب الكاتبى لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الأمالي لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها.
ومؤلفات الجاحظ عديدة، منها ما فقد ولم يصل إلى أيدينا، ومن أهم مؤلفاته إضافة للبيان والتبيين: كتاب الحيوان، المحاسن والأضداد، البرصان والمرجان، التاج في أخلاق الملوك، الأمل والمأمول، التبصرة في التجارة، البغال، فضل السودان على البيضان، الرسائل.
إلا أن كتاب الجاحظ والمعنون بـ"البخلاء" حظى بشهرة واسعة، ربما تفوق كتبه الأخرى، لما احتشد به متنه من صور وقصص شديدة السخرية عن البخلاء، وفي كتابه هذا صور الجاحظ البخلاء تصويراً واقعياً حسياً نفسياً فكاهياً، فأبرز حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم، وأطلعنا على مختلف أحاديثهم، وأظهر لنا نفسياتهم وأحوالهم جميعاً، ولكنه لا يقصد أبدا أن يدفعنا إلى كراهيتهم، فقط الضحك وتأمل شئونهم، حيث يعد الكتاب رغم طابعه الهزلي دراسة اجتماعية تربوية نفسية اقتصادية لهذا الصنف من البشر، علاوة على هذا يحتوي الكتاب على العديد من أسماء الأعلام والمشاهير والمغمورين، وكذلك أسماء البلدان والأماكن وصفات أهلها والعديد من أبيات الشعر والأحاديث والآثار، وبذلك يعد "البخلاء" موسوعة علمية أدبية اجتماعية جغرافية تاريخية.
ومن النوادر التي حكاها الجاحظ عن بخلاء مدينته مروا، تلك التي رواها عن شيخ خراساني كان يأكل في بعض المواضع، إذ مر به رجل فسلم عليه فرد الشيخ السلام ثم قال: هلم عافاك الله.
فتوجه الرجل نحوه، فلما رآه الشيخ مقبلاً قال له: مكانك .. فإن العجلة من عمل الشيطان. فوقف الرجل، فقال له الخرساني: ماذا تريد؟
قال الرجل: أريد أن أتغذى.
قال الشيخ: ولم ذاك ؟ وكيف طمعت في هذا ؟ ومن أباح لك مالي؟
قال الرجل: أوليس قد دعوتني ؟
قال الشيخ: ويحك، لو ظننت أنك هكذا أحمق ما رددت عليك السلام .
الأمر هو أن أقول أنا: هلم.
فتجيب أنت: هنيئاً !
فيكون كلام بكلام. فأما كلام بفعال وقول بأكل فهذا ليس من الإنصاف!
وإذا كانت السخرية كما يرى الناقد المصري الدكتور عبدالنعم تليمة هي أصل الأدب وهي روح الفن عموما، إلا أنه ينبغي الحذر بألا يتحول هذا النوع من الفن إلى مجرد التنفيس عن مكنوناتنا المشتعلة بالغضب على أحوالنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما كان حال مسرح دريد لحام ومحمد الماغوط في ثمانينيات القرن الماضي، والذي كان شعاره غير المعلن كما هو حال صنوف الفن الكوميدي في العالم العربي: كثير من الضحك، قليل من التفكير، قليل من الفعل !
فإذا كان الفن رسالة، فرسالة الفن الساخر ليس تفريغ مكبوتات الغضب بدواخل المتلقي، فقط، بل الأهم؟ تحفيزه على فعل صائب للارتقاء بالحياة حوله، ولنكف عن النظر إلى الفنان الساخر كـ"أراجوز" أو "بهلون" مهمته التسرية عن الناس أو حتى طبيب نفساني يعالجهم، بل الفنان أولا، وحتى عاشرا مصلح لديه رسالة بالغة الأهمية تفقد أهميتها إن اكتفى المتلقي بالضحك تنفيسا عن مكبوتاته.

محمد القصبي