نطرق اليوم باب أحد الفنانين القياديين في مسيرة الفن التشكيلي العُماني وتحديداً في مجال الخط العربي والحروفية، فنان عُرف عنه بأنه ينحت الحرف في اللون ليكتشف مدى طواعية المادة وجماليتها ويحاور بنمنماته الحروفية تراكماته الفكرية والثقافية ومفاهيم العولمة ليطرح لنا من خلالها فلسفته الذاتية على الموجودات في بيئته ومحيطه محولاً بخبرته العالية الحرف العربي إلى لغة استطيقية تتجاوز توظيف التراث بمعناه القومي إلى بناءٍ يمتاز بأسس متغيرة وتأويلات فنية متجددة، إنه الفنان القدير محمد بن فاضل الحسني الذي طالما أمتعنا بصريًّا بتجلياته الحروفية وتكويناته المتميزة، فنان اليوم أبحر شرقاً وغرباً واطلع على ثقافات كثيرة ساهمت في ثراء تجربته الفنية وفي بحثه المتواصل لتطوير أسلوبه الفني المرتبط بالفن المعاصر. سنقف اليوم أمام أحدث تجاربه الفنية المحملة بالمفاهيم الروحانية والصوفية التي جعلت منظومة الحرف العربي تتجلى في رؤية مختلفة لترسم سجالاً فكرياً وحضارياً دينياً يجسد معه روح الحرف ضمن عمل تشكيلي مطرز بالتناغم والتداخل المثير، ويتضح لنا من خلال اللقطة الفنية العامة لهذا العمل مدى المقاربة الرائعة بين عناصره المختلفة، فالعمل عبارة عن دوائر صغيرة من الخشب وقرص كبير احتوى بداخله الأنشودة الرائعة (مولاي إني ببابك) للشاعر عبدالفتاح مصطفى الغمراوي والتي أبدع في أدائها المنشد المعروف الشيخ سيد النقشبندي ولحنها الفنان بليغ حمدي وأذكر هنا مقتطفات من القصيدة لنعقد من خلالها جانب المقاربة بين روحانية القصيدة وعناصر العمل تقول القصيدة : "مولاي إنى ببابك قد بسطت يدي، من لي الوذ به إلاك يا سندي، مولاي يا مولاي، أقوم بالليل والأسحار ساجدة أدعوا وهمس دعائي بالدموع ندي، بنور وجهك إني عائذ وجل، ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد، مهما لقيت من الدنيا وعارضها، فأنت لي شغل عما يرى جسدي، تحلوا مرارة عيش فى رضاك ولا، أطيق سخطاً على عيش من الرغد، من لي سواك، ومن سواك يرى قلبي ويسمعه، كل الخلائق ظل فى يد الصمد، أدعوك يا ربي فاغفر ذلتي كرماً، واجعل شفيع دعائي حسن معتقدي، وانظر لحالي فى خوف وفي طمعٍ، هل يرحم العبد بعد الله من أحد"، انتهت القصيدة. وأمام هذا التجلي الروحاني في كلمات هذه القصيدة يتضرع محمد فاضل بجمال الحرف ليبدع منه نشيداً بصريًّا قائم الذات تنتشي معه نفسه بميلاد روحانية الأثر الذي أسقطته الكلمات الجليلة على شغاف قلبه فنطقت يداه أنغاماً حروفية نسج عبرها لغة تشكيلية لا تجد حدوداً لنوعية الفضاء الذي سبحت فيه مسترسلة أفلاكه بتناغمها البديع إلى منبره الأصيل في نطاق سجال ثنائي بين روح الفنان وأثر القصيدة والقيم الجمالية للحرف العربي. فنجد أن الحسني اتخذ في عمله نسقاً فنياً يرنو به إلى إدراك الموجود للوصول إلى المنشود، فهو يشاهد هذا الكون الفسيح وما يحويه من أفلاك تسبح في فضائه فكأن القرص الكبير هو الشمس والحلقات الصغيرة هي الكواكب التي تدور حولها الشمس وعليها كتب هذه القصيدة كونها النجم المركزي للمجموعة الشمسية ليرفع الحقيقة السامية في ألوان متوهجة كوهج القصيدة وما ترسله إلينا من معان تنوعت بين الذل والانكسار لجلال الرب العظيم، ونلمس الخبرة الكبيرة من الفنان محمد فاضل في خلق علاقة بديعة بين القصيدة وإيقاعاتها الموسيقية والحرف العربي الذي صاغها في تكوين فني بديع ارتقى بها إلى ملكوت سماوي تجلى في آياته الدلالية العظيمة إضافة إلى تفكيره الفلسفي في خلق عمل فني من خلال ثقافة العين وما يمكن أن تحمله من تأملات مختلفة تنساب إلى روحك عن تأملك لهذا العمل ليصل عبر هذه الخصوصية إلى مفهوم التناغم بين الألوان والأشكال والحروف فهو يوزع إحساسك على كامل الأثر الفني ليدرك حقيقة وجود هذه الأنسان ضمن هذه المنظومة الكونية البديعة، ويحيط نظرك في جمال الأداء الإبداعي وكيفية الإحساس بحقيقة الوجود والرب العظيم الذي أوجده من خلال التوليفة البصرية بين الشكل والكلمات التي تتكامل مع عمق العمل التشكيلي .
وتأسيساً على تجربة هذا الفنان يمكن لنا أن نشير في آخر هذه القراءة إلى أن محمد فاضل امتلك بإحساسه التشكيلي طيلة فترة عطائه الفني الطويلة جانباً من النزعة الروحانية في الإبداع وقدم من خلالها جمالاً خالداً رفع من منزلة الكلمة الطيبة الكريمة ذات المعنى الرصين سواء في هذا العمل أو أعماله الفنية الأخرى وجعل من حركة أقلامه ومداد ألوانه مناجاة في كل ما تحويه اللوحة من عناصر تشكيلية تحمل هوية الذات المبدعة لشخصه متسورة بتجاذب بصري يفوق الموجود ويتدرج في لغة موسيقية عبر ميزة اللون الذي يتحول بين يديه إلى روح تحيا على سطح العمل التشكيلي لتنذر بمولود جديد كل حين حاملا بين جسده سبحات من التجليات الإنسانية الإبداعية.

عبدالكريم الميمني
[email protected]