أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة لا يزال الحديث متواصلا عن الموت وسكراته ومصير كل إنسان يـقـول الله تعالى (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) سـورة (ق) 19، ولكن إيمانه لا ينفعه في تلك اللحـظة، كما قال الله تعـالى (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك، يـوم يأتي بعـض آيات ربـك لا ينفع نفـسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خـيرا قـل انتظروا إنا منتظرون) سـورة الأنعـام 158 .
فمعنى قوله تعالى (وجاءت سكرة الموت بالحق)، أي الحالة التي يصـل إليها الإنسان بحـيث يـريه الله تعالى أشـياء ، تجـعـله تلـك الأشـياء يـؤمن بكل ما كان يكـذب به مـن قـبـل، حـتى يعـتـقـد أنه الحـق، ولكـنه لا يستـطـيع أن يـكلم أحـدا، وما الـذي جاء بهـذا الحـق في ذلك الوقـت؟ ، جـاءت به سـكـرة المـوت ، فالمؤمن يـرى في ذلك الـوقـت مكانه في الجـنة ويـرى الكـافـر مـع سـكـرة المـوت مـكانه في النار والعـياذ بالله ، ولنا في القـرآن الكـريم مـثال عـلى ذلـك مـا جـاء في قـصة فـرعـون عـنـدما أدركه الغـرق، فـقـد قال الله تعالى: {حـتى إذا أدركه الغـرق قال آمنـت أنه لا إلـه إلا الـذي آمنـت به بنـو إسـرائيـل وأنا من المسلمين} سـورة يـونس 90 .
فهـذا فـرعـون الطـاغـية ، الجـبار يعـاني ما يعـاني وهـو يـغـالب أمـواج البحـر، يـحـاول النجـاة، ولا يعـلم إلا الله مـدى الغـم الـذي بقلبه وهـو يعايـن الموت أمامه، وقـد أحـاط به الماء مـن كل الجـهات ، وليسـت سـكـرات المـوت بالأمـر البسـيط، ولـذلك لـما أدركه المـوت وآيـس من النجـاة أعـلن إيمانه.
كـذلك سـيحـدث للـذين يكـذبـون بعـيسى عـليه السـلام، إذ يـقـول الله تعالى: {وإن من أهـل الكـتاب إلا ليـؤمن به قـبـل مـوته ويـوم القـيامة يكـون عـليهـم شـهـيـدا} سـورة النساء 159 ، ويـبـدو لي أن مـن أرجـح التفاسـير أن الأمـر يتعـلـق بالكتاب نفـسه الـذي كان يكـذب بعـيسى عـليه السلام ، أو كان يـقـول ، فأهـل الكتاب الـذين كـفـروا بالنبي عـيسى حـتى قـتـلـوه ( عـلى زعـمهـم ) لا يخـرج أحـدهـم من الـدنيا حـتى يـؤمـن بأن عـيسى عـليه السـلام عـبـد الله ورسـوله ، وكلمـته ألقاها إلى مـريـم وروح مـنه، وأنه ليـس ابن بـغي كما يـقـول اليهـود لعـنهـم الله ، ولا هـو إلـه ولا هـو ابن الله كما يـقـول النصارى، كل هـذا سيـظهـر عـنـد سـكـرة المـوت ، لأن الله تعالى حـكـم عـلى نفـسه أن يظهـر الحـق ، عـنـد سـكـرة المـوت حـتى يـراه كل أحـد واضحا جـليا أمـامه رأي العـيـن .
قال تعالى:{ذلك ما كنت منه تحـيـد}، ذلك أيها الإنسان ما كنت منه تهـرب وتتجـنب، وحـاد بمعـنى تجـنـب ، لـقـد كنـت أيها الإنسان طـول عـمـرك تـبـتعـد عـن ذكـر المـوت، وتـود ألا يـذكـر المـوت أمامـك ، وألا يأتيك من خـلفـك ، ولـذلك تستعـمـل الأدوية والعـقـاقـير وتقـصـد الشـواطئ والمتنـزهات لتسـتنـشـق الهـواء النقي، وتأكل الأطـعـمة الصحـية اللـذيـذة، وتشـرب الأشـربة المنعـشة، التي تـظـن أنهـا تمـد في عـمـرك، وتـباعـد أجـلك وكل ذلك يـدخـل في قـوله تعالى: {ذلك ما كـنت منه تحـيـد }، فإذا كنت تـقـوم بـكل ذلك من أجـل الانفـلات من قـبضة المـوت ، فإن المـوت مـدركـك لامحـالة قـريبا أو بعـيـدا .
قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }سورة النساء 78 0
هـذا الخـطاب مـوجـه لـكل إنسان، لأن لـكـل واحـد ساعـته ، وكل من مات فـقـد قامـت قـيامته، وما لك أنت وقـيام الساعـة العـامة ولك ساعـتك الخاصة عـنـد موتـك عـنـدما تـدركـك ســكـرة المـوت ، عـلى ان النـفـخ في الصـور قـد اقــترب كـما أخـبر الله تعـالى في قـوله : {اقـترب للناس حـسابهـم وهـم في غـفـلة معـرضـون} سـورة الأنبياء 1، وقـوله : {اقتـربت الساعـة وانشـق القـمـر }سـورة القـمر1 ، وثـبت عـن النبي صلى الله عـليه وسـلم أنه قال : ( كـيف أنعـم وقـد التـقـم صاحـب القـرن قـرنه ، وحـنى جـبهته وأصغى سمعه ينتـظـر الإذن بالنفـخ.
قال الله تعالى: {ونفـخ في الصـور ذلك يـوم الـوعـيـد} سـورة (ق ) 20 ، ينـتقـل الله تعـالى بـداية من هـذه الآية إلى الحـديث عـن المـرحـلة الثانية، التي تـبـدأ بالبـعـث إلى أن يسـتقـر أهـل الجـنة في الجـنة وأهـل النار في النار .
أمـا المـرحـلة الأولى فـقـد بـدئـت بـقـوله تعالى: { ولـقـد خـلقـنا الإنسان ونعـلم ما تـوسوس به نفـسه}، إذ ذكـر فـيها الله تعالى خـلـق الإنسان، وذكـر ما يجـب عـلى الإنسان أن يتـذكـره في كل وقـت، بـين المـرحلة الممـتـدة بين خـلـقه ومـوته، في هـذا الـسفـر القـصير باعـتبار، والطـويـل باعـتبار، قـصير جـدا باعـتبار المـرحلة الأولى التي يعـيشها الإنسان، ويقـضيها عـلى ظهـر كـوكـب الأرض، مـرحـلة الحـياة الـدنيا، التي سـماها الله تعالى : لهـوا ولعـبا، وطـويـل باعـتبار الحـياة الـدائمة التي يـهـب إليها، الخـلـود في الجـنة أو الخـلـود في جهـنـم وبئـس المصـير .
لم يـذكـر الله تعالى لنا في الآيات المـتقـدمة كل شيء مما يجـب عـلى الإنسان أن يتـذكـره، ويجـعـله نصب عـينيه طـول عـمـره في هـذه الحـياة، إلا أنه ذكـر لنا ثـلاثـة أشياء مهمة جـدا، إذا تـذكـرها الإنسان اسـتقـام سـلـوكه، واهـتـدى إلى عـمل الخـير وتـرك الشـر ، وإذا ابـتـلي بشيء تاب وأناب وهـذه الأشـياء هـي :
الأول :قـوله تعالى: {ولـقـد خـلـقـنا الإنسان ونعـلم ما تـوسوس به نفـسه} 16 0
الثاني: قـوله تعالى: {ونحـن أقـرب إلـيه من حـبـل الـوريـد }17 0
الثالث :قـوله تعالى: {إذ يـتـلـقى المتـلـقـيان عـن اليمين، وعـن الشمال قـعـيـد ما يلـفـظ من قـول إلا لـديه رقـيب عـتـيـد }17/18 .
إنها ثـلاثة أشـياء وهي من أهـم ما يجـب عـلى الإنسان أن يـتـذكـره، في هــذه الحـياة الـدنيا، ويجـعـله نصب عـينيه، وإذا كان كـذلك اهـتـدى واسـتقـام، كما قال الله تعالى: {إن الـذين قالـوا ربـنا الله ثـم اسـتـقـاموا} سـورة فـصلت 30 ، ترى ماذا يحـمـل الإنسان عـلى الاسـتقـامة؟.
الأول: يحـمله عـلى الاسـتقـامة: أن يعـلم أن الله تعـالى يـعـلم وسـواس النفـس، أي حـديث النفـس الـذي ليس لفـظـا ولا حـركة لسان ولا نبس شـفـة، وهـذا وحـده كاف لحـمـل الإنسان عـلى الاسـتقـامة .
الثاني : أن يعـلم أن الله تعالى قـريب من الإنسان، وقـد ضـرب المـثـل لـقـربه بحـبـل الـوريــد ، هـذا العـرق الـذي يجـري فـيه الـدم ، وينـقـله إلى أطـراف الجسـم، وإذا انـفـجـر هـذا الـوريــد أو قـطـع، أو احـتبـس يتخـثر الـدم فـيه يـكـون ما يسمى بالجـلـطة ، فـيـموت صاحـبه في الحال، وحياة الإنسان إنما تسمر بسريان دمه في عـروقـه، فالله تعالى معـنا بـل هـو أقـرب إلـينا من كل قـريب من أجـزاء جـسمـنا.
الثالث: أن يعـلم أن الله تعالى جـعـل لـكل إنسان مـلكـين يحـفـظان أعـماله، ويـكـتبان كل شـيء يصـدر منه مـن قـول أو عـمـل، وإذا ذكـر الله تعـالى تسـجـل كل ما يلـفـظ الإنسان بـه من قـول ، فـإن العـمل الـذي يأتيه يحـصى ويـدون بالطـبع من باب أولى .
فإذا كان الإنسان يـتـذكـر قـرب الله تعالى منه، وعـلمه بـوسواس نفـسه، ووجـود الملكـين المـكلفـين بـكتابة كل حـركة وكل سـكنة تصـدر منه، أوليس هـذا هـو الـذي يحـمـله عـلى الاسـتقـامة ؟ ، بحـيـث كلما أراد أن يعـمل عـملا ، أو يـتلـفـظ بكلمة يـتـذكـر هـذه الأمـور ، وهـذا أهـم شيء يجـب أن يـعـرفه ، في هـذه المـرحـلة الـدنيـوية التي يعـيش فـيها ، ولـذلك ذكـرها الله تعالى في هـذه الآيات .
أما الأوامـر والنـواهي فـمـذكـورة في آيات أخـرى، ولا يهـم أن يـطـول عـمـر الإنسان أو يقـصـر ، وإنما المهـم ما يـكـون فـيه من رقابة الله تعالى، ومـن التأكـد من كـون الله تعـالى قـريبا منه ، عـليما بـكل شيء ، وبـعــد هـذه المـرحـلة التي يعـيـشها الإنسان مـراقـبا مراقـبة دقـيقة، تأتيه سـكـرة المـوت بالحـق، فـيتـبين له الحـق الـذي كان ينـكـره، مـن وجـود الله ووحـدانيته، والبعـث ولـقـاء الله والحساب والجـزاء .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـواصله في حـلقة قـادمة ..