قراءة ـ بدرية البدرية
امرأة بنقطة واحدة، عنوان ملفت، جعلني أبتسم وأنا أتخيلها امرأة برجلٍ واحدة، أو يدٍ واحدة، أو عينٍ واحدة، باغتني السؤال:
- لماذا نقطة واحدة؟
قبل أن أبحث عن إجابة أو أفكر بها، كنت ابنتي عُلا تقرأ العنوان معي ( عُلا للعلم قارئة وناقدة أثق برأيها كثيرا، رغم سنها الصغير) فاستبقت سؤالي، وقالت:
- أنا أعرف الإجابة، أو أتوقعها، اسمها فيه نقطة واحدة.
أجبتها أن كلا؛ فاسم بطلة الرواية ( زمن ) به نقطتان، كل واحدة منهما تقف على رأس حرف، ولكن ربما ثمة أمر مشابه؛ سنقرأ، ونرى.
بعد قراءتي للرواية، عدت لعُلا، وأخبرتها، لقد كنتِ محقة، فالكاتب يقصد حرف الزاي من اسمها، بشكلٍ ما كان توقعكِ صحيحاً. ( عُلا أيضاً لديها حس استخباراتي، وتحب قصص المغامرات، وتلك التي تطرح الكثير من الأسئلة، لتجيب عليها، وتفكر نوعاً ما بأن تكون مُحققة.)
نعود لرواية: امرأة بنقطة واحدة، الصادرة عن دار نينوى، عام 2018م، وهي رواية قصيرة، لا يتعدى عدد صفحاتها 114 صفحة، وأعترف أني أحب الروايات القصيرة أكثر من الطويلة.
الرواية هي الرواية التاسعة للكاتب، والثانية التي صدرت في عام 2018، إذ صاحبتها رواية أخرى بعنوان: جمهورية مريم، عن دار المتوسط، كما سبقتهما اثنتان في عام 2017م، مما يدل أن الكاتب غزير الإنتاج، ولكن هذه الغزارة بحاجة لمراجعة كما أجد من مستوى هذه الرواية.
الجميل بالرواية أنها تلتفت لعُمر مختلف، لا يلتفت له أغلبنا، تذكرت هذا الأمر وأنا أقرأ منشوراً لأحدهم عن رؤية زوجين شابين، لزوجين في العقد الرابع من عمرهما ( يفترض أنهما إذن في الثلاثينات، أو ربما قصد أنهما في الأربعين من العمر) أمسكت المرأة يد زوجها وهمست في أذنه لتخبره عن التنزيلات في محل الأحذية، لعلّهما يشتريان أحذية مدرسية لأطفالهما منه.
سخر الزوجان الشابان منهما، وتبادلا الهمسات وهما يشيران لهما؛ لأنهما ارتأيا أنهما بعمرٍ تنتهي فيه صلاحية الحب ربما، أو تُقفل فيه القلوب، رغم أني لم أرَ في المشهد أي رومانسية، هي أمسكت يده لتلفت انتباهه، ثم همست له بأمرٍ يجعلهما ينتهيان من شراء حاجيات المدرسة، وبنفس الوقت يحافظان على القليل من المال بالشراء في موسم التنزيلات.
ولكن الرواية هنا أخذتنا مع زمن وزوجها، اللذين بلغا السبعين من عمرهما معاً، وكانت قصة حبهما قد ابتدأت منذ السنة الأولى في الجامعة، تخصيصاً في كلية الفنون الجميلة، عندما اختار الشاب الفتاة زمن لتكون موديل منحوتته التي سيخلدها الزمن، وكان أن أسمى المنحوته باسم حبيبته (زمن).
تلك المنحوتة أصبحت منحوتته الوحيدة، شكلها على هيئة فتاة جميلة، يبدو ألمها واضحاً من تقاسيم وجهها، مع ظهور نصفها العلوي، من شيء يبدو كتنورٍ يفور، وكأنه يقصد بذلك أنها تحترق، في إشارة للحرب، رغم أن معلميه حينها، انتقدوا استخدامه للحرب، في زمن السلم، والناس لا تعرف معنى الحرب، ولكنه برر الأمر أنه أرادها استثنائية، منحوتةً خالدة، هي للزمن كما يقول، وهي زمن حبيبته التي اعترف لمعلميه بحبه لها، وكأنه أراد لهذا الحب أن يشفع لضعف الفكرة كما ارتأى معلموه، ورغم ذلك أصبحت تلك المنحوتة من أشهر المنحوتات.
تدور أحداث الرواية من بدايتها إلى نهايتها في مكان واحد: الحديقة التي التقيا فيها أول مرة، بعد أن قررا الاحتفال باليوبيل الذهبي لزواجهما هناك، هذه الحديقة القديمة، المتراصة الأشجار، بفراغاتها القليلة التي ظل البطل مستاءً منها، معتبراً الفراغ جزءًا من جمال هذا الكون، هذا الاستياء رافق البطلين طوال الرواية، فهو مستاء من قلة الفراغات، وهي مستاءة من وضع البلد، الذي لم يأخذ حقه من السرد، سوى بترديد البطلة الدائم لكلمات مثل: (مقرف، تفتيش، ازدحام، اختناق، بلد تعبان).
ورغم ذلك الانزعاج، حاول البطلان كثيراً ألا يفسدا يومهما، وكلما تضايق أحدهما، انبرى الآخر لتهدئته، ليتمكنا من إكمال احتفالهما بعيد زواجهما الخمسين.
بحث الزوجان كثيراً، عن حروفهما التي رسماها على جذوع الأشجار، ولكن الأمر لم يكن سهلاً كما تخيلاه أبداً، فكم من العشاق مر بعدهما في هذه الحديقة، التي اعتاد العشاق على ارتيادها، وكم من التغييرات حدثت بها، حتى ما عادت الحديقة كما كانت أبداً.
بدأت الرواية بعثور شابين على رجلٍ كبيرٍ في السن يموت ( لم يُذكر اسم البطل في الرواية أبداً)، وهو يلفظ حرف (ز)، وعندما أخذا بطاقته للتعرف عليه، كل ما تم ذكره من البيانات أن الوكيل (زمن)، رغم أني لم أفهم المقصود بمفردة وكيل هنا، مما دعاني للتساؤل: هل هو تحت وكالتها؟ أهو موظف معها؟ أم أنه غريب مقيم في البلد باعتبارها وكيلته هنا، وأخيراً قلت لنفسي: ربما كان للمفردة معنى ما في بلد الكاتب.
أخذنا الراوي بعدها إلى الرجل وزوجته منذ كانا في التاكسي، إلى أن وصلا الحديقة، وضيّع أحدهما الآخر في نهايتها، بعد أن اتفقا أن يفترقا للبحث عن حرفيهما المنقوشين على جذوع الأشجار، لتنتهي بالشابين يجدان زمن تنادي زوجها:
- أينك يا رجل، تعال لقد وجدت الحرف.
فيعرضا عليها المساعدة، ولكنها ترد بأن زوجها قريب، وسيأتي، فيخبراها أنهما موقنان أن أحداً لا يوجد هناك سواها، ليتركاها بعد إصرارها، وهي تضع يدها على قلبها الضعيف، في حين تتشبث يدها بحرف (ز) المنقوش على جذعٍ شجرةٍ مقطوعة.
ثم في لقطة فلاشية، نفس الشابين الحاملين لكمان مقطوع الأوتار يلتقيان رجلاً، ينادي زوجته زمن؛ فيعرضا عليه المساعدة أيضاً، مؤكدين له بجملة:
- لا أحد هنا، أنت وحدك يا عم.
ليخبرهما بعد يأس:
- لا عليكما، أخبروها أنني هنا، وقد وجدت حرفها العظيم.
هل كان اللقاء حقيقياً، هل كل ما حدث كان مجرد خيال، ذلك ما يتركك الكتاب حائراً به، ولسان حالك يقول:
- تباً لك، ما الذي حدث حقاً؟
ربما كانت هذه النهاية المُربكة هي ما شفعت للكاتب لديّ، بعد أن شعرت بالكثير من التكرار في الرواية، إذ أن كل فصولها تدور حول ذات الموضوع، وذات الكلام يتكرر في كل مرة بأسلوب مختلف، وكأن شخصاً يعيد الشرح بطرق عدة ليفهم القارئ.
كقارئ وددت لو أخذني الكاتب إلى عوالم الفنون الجميلة، والنحت، خاصة أن بطل الرواية أستاذ جامعي في النقد الفني، لأخرج من روايته شغوفة بهذا العالم، ولكن ذلك لم يحدث للأسف، وهذا يضعنا أمام تساؤل مهم:
- لماذا لا يشتغل الرواة على رواياتهم، ليخرج القارئ من أي رواية، ولو بمعلومة واحدة، تجعله يتذكر تلك الرواية باعتبارها أول من عرّفه على تلك المعلومة؟
* أثناء بحث الزوجين عن حرفيهما، وجدا الكثير من العبارات، والتي أغلبها كان مألوفا، كحرفين وقلبٍ مثقوب بسهم، اذكريني، حب للأبد، وداعاً، حب حتى الموت، أحبك، لا يوجد دوام ... إلخ. ( حتى هنا تمنيت لو أني وجدت عبارة استثنائية، ورغم أن العبارات أخذت صفحة كاملة وربما أكثر قليلاً، إلا أني لم أجد شيئاً يجعلني أهتف: واو!)
الجملة الوحيدة التي استوقفتني، لم تكن هي مربط الفرس، بل تفسيرها، هذه الجملة تركها أحد الجنود يقول بها أنه مر من هنا، فتفسر زوجته أنه ربما أراد أن يخبر حبيبته بمروره، ليرد العجوز:
- يعشقون ثم يموتون من دون سبب، والبنات يتزوجن آخرين.
يعود الراوي مرةً أخرى إلى هذه الجملة في مشهدٍ لاحق، حين يسأل البطل زوجته، أتعلمين لم كتب هذه الجملة؟ فتخبره أنه أراد أن يوثق اللحظة، أو يذكر لحبيبته أنه كان هنا، ولكن زوجها كان له رأي آخر، هذا الرأي هو ما لفت نظري، وأشعرني بالوجع:
- يعني أراد أن يقول أنه حي حتى لحظة الكتابة.
هذه الجملة بالذات هي ما لفت نظري، إذ شعرت بكاتبها يرقب الموت وهو ينتظره بمجرد مغادرته ذلك المكان.
** وجدت في الرواية أمراً مُلفتا، بدا لي غريباً، لم أجده مسبقاً في أي رواية، إن لم تخني ذاكرتي:
إذ وضع الكاتب فهرساً لفصول الرواية، رغم أن كل فصل احتوى على مشاهد فلاشية قصيرة مُرقّمة.
هذا الفهرس هو أسوأ ما بالرواية، إذ لم يكن شيئاً أدبيا، أذكر أن عنوان أحدها كان:
( كتمساحٍ هرم يسير أمامها ببطء ).
فهل أراد الكاتب أن يترك جملاً عالقة في أذهاننا بفكرته هذه؟ ربما، ولكني أجد أنه لم يوفق في الأمر.
*** آخر ما لفت نظري في الرواية هو التاريخ المدون في صفحتها الأخيرة:
بغداد
31/10/2017
5/11/2017
فهل قصد الكاتب أنه كتبها في ستة أيام؟ لا يمكنني الجزم بالأمر، ولكني تخيّلت أن أتشادّ معه، مستنكرة:
- كتبت رواية في ستة أيام، قُل كلاماً غير هذا يا رجل؟
ليجيبني بهدوءٍ شديد:
- لقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام.
لأصمت بعدها، ولسان حالي يُهدئني:
- اهدئي، اهدئي، اهدئي.