استعرضنا خلال المقال السابق الحركة القومية العربية وبدايات تسلسلها التاريخي وأبرز محطاتها حتى منتصف القرن الماضي، ونواصل الحديث عن حركة القومية العربية وصولا إلى أبرز جناحيها وهما البعث العربي والناصرية، ونستكمل الحديث حول أبرز المحطات القومية العربية، ومبادئها وأهمية الالتزام الجماهيري بها في ظل وجود الدولة الوطنية وفق تكاملية منطقية بين الدولة الوطنية والدائرة القومية، وسنتطرق إلى التشويه والاستهداف الذي تعرضت له القومية العربية، ثم سنختتم حول مدى ملائمتها للمستقبل .
مثل جناحا الحركة القومية العربية وهما حركة البعث العربي والتيار الناصري تزامنا في الظهور في القرن العشرين وإن كانت الجذور التاريخية للبعث قد بدأت أولا في الثلاثينيات والأربعينيات وتم تأسيس حزب البعث العربي في عام 1947م على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي الذي شكل الحزب القومي العربي قبل ذلك في عام 1939م وهذه الأحزاب والتيارات كلها كانت روافد تصب في القومية العربية، فيما جاءت الناصرية مشتقة من اسم الزعيم جمال عبدالناصر وظهورها الفعلي بعد نجاح ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952م، واشترك التياران في مبادئ متطابقة تمثلت في (حرية اشتراكية وحدة) كما اعتمدا نفس النهج في مكافحة الاستعمار والتحرر العربي وإزالة الطبقية وإن اختلفا شكلا في الاشتراكية، ولكن هذه المبادئ والأفكار والرؤى كانت تتفق في أهم دور لهما في المنطقة على صعيد الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار، وذلك لكون هذا التيار القومي على سدة السلطة في أهم ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا ثم العراق لاحقا، وبالتالي فقد أسهم وجود قيادات مؤثرة تنتمي للفكر القومي العربي في قيادة الحركة القومية العربية واتساع حركة التحرر العربي بعد انضمام الجزائر وتونس واليمن والسودان وليبيا، فأصبحت القومية العربية في أوج مراحلها في نفس الوقت الذي زرعت فيه القوى الدولية الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي. وأهم ما ميز تلك المرحلة كان الصراع مع هذا الكيان، فجاء الصراع على قاعدة نكون أو لا نكون وما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، ورغم الخسارة في حرب يونيو 1967م لكن الموقف العربي ظل ثابتا موحدا في مواجهة العدو من خلال الموقف الرسمي والشعبي، بل إن الوحدة الرمزية العربية كانت أكثر تماسكا تعززها تلك القيادات العربية المحورية، كما توفرت لديها الأدوات الإعلامية التي أوصلت أفكارها إلى جماهير الأمة العربية فكان الحراك القومي العربي يشق طريقة في اتجاه تقدمي لا يمكن أن يحيد عنه وفقا لمبادئ سامية، لذلك تحققت الوحدة العربية فعليا بين أهم بلدين عربيين هما مصر وسوريا تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958م باعتبارها لبنة أولى في مشروع الوحدة العربية الذي كان قائما على أرض الواقع من خلال وحدة الموقف العربي فكان التفاعل القومي على المستوى الرسمي والشعبي متألقا من المحيط الأطلسي غربا إلى الخليج العربي شرقا، وهكذا كانت الوحدة الفكرية العربية من أهم ما يميز تلك المرحلة، فانطلقت المشاريع الوطنية التي سجلت نهضة صناعية عربية وبالذات في مصر وكان قائد تلك المرحلة العربية المضيئة الزعيم جمال عبدالناصر الذي التفت الجماهير من حولة تجسيدا للقيادة المحورية، وقامت حرب الاستنزاف كأحد أهم مسارات العمل العسكري الذي وحد الموقف العربي استعدادا لمعركة التحرير الفاصلة .
لقد استمرت الحركة القومية العربية ما بعد 28 سبتمبر 1970م يوم رحيل عبدالناصر، فاستمر الحراك القومي العربي على تسارع وتيرته التي رسمها عبدالناصر ورفاقه فتحقق النصر في أكتوبر 1973م وإن كان نصرا محدودا، لكنه أنهى أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأثبت أن العرب قادرون على توحيد مواقفهم وهزيمة القوى الاستعمارية، وهو الأمر الذي تنبهت له قوى الاستعمار فعملت على تفكيك رابطة الوحدة العربية بالتركيز على حرف مسار بعض القيادات العربية، فتعرضت الحركة القومية العربية إلى انتكاسة شديدة بعد توقيع اتفاقيات ثنائية بين العرب و"إسرائيل" كانت أبرز تجلياتها الانقسامية اتفاقية "كامب ديفيد" التي كبلت أهم قوة عربية، ثم تبعها اجتياح لبنان عام 1982م، كما انشغل العراق بحربه مع إيران فدخلت الحركة القومية العربية في أزمات متلاحقة، تزامن ذلك مع حملة تشويه واستهداف لها من قبل القوى الاستعمارية والقوى الرجعية، مع أن القومية هي جزء أصيل يمس كل ما من شأنه وحدة الأمة وحرية الشعوب والأوطان وقيام نهضة عربية، ولكن الأفكار المشوهة أسهمت في تراجع الحركة القومية العربية .
هناك من يفصل بين الفكرة القومية والدولة الوطنية، وهذا فصل مغلوط وفهم مسيء للرابط المصيري بينهما؛ فالوحدة القومية تنطلق من إطار الدولة الوطنية، بل على العكس التنمية الوطنية وجوانب الدولة الوطنية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعسكرية تنشط في إطارها القومي التكاملي الشامل. وبلا شك أن الأنظمة العربية كانت تعمل وفق هذه الفكرة، ونشطت اللجان على مستوى العمل العربي، وبالطبع هذا أمر مفيد للوحدة القومية العربية لو تم تفعيله بالشكل المأمول .
الفكرة القومية العربية هي فكرة جامعة أصيلة ذات مبادئ صالحة للمستقبل العربي، وعلى الأمة بكل أطيافها العمل في صالح هذه الفكرة العربية المصيرية لاستعادة العرب قوتهم وبناء نهضة عربية شاملة، ولن تنطلق هذه الفكرة إلا من خلال بروز قيادات محورية قادرة على لملمة الشتات العربي والتخلص من الارتهان للقوى الأجنبية، والاعتماد على الذات العربية، والأهم من ذلك هو الإيمان الجماهيري بالفكرة القومية العربية .

خميس بن عبيد القطيطي
[email protected]