[author image="http://alwatan.com/styles/images/opinion/abdalahabdelrazak.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج [/author]
إن استشراف المستقبل أمر ليس مستحيلا أو خارج قدرات التحليل السياسي، وإنما يحتاج إلى رؤية أكثر شمولا وأبعد عمقا، تمزج السياسة بالتاريخ والاجتماع، وتضع الجميع في إطار الصيرورة الحضارية العامة، وقد قدم لنا معالي يوسف بن علوي بن عبدالله وزير الدولة للشئون الخارجية رؤية استشرافية عميقة لشكل الدولة الإقليمية بعد ان استنفذت الدولة ،،المركزية،، مبررات شرعيتها بل وجودها في عصرنا الراهن، وذلك أثناء لقائه مع إدارة جمعية الصحفيين مؤخرا، فقد رأيناه في هذا اللقاء يقدم مؤهلاته من خلال ممارسته لعدة أدوار سياسية وفكرية، فظهر مثلا، كرجل دولة يجزم قطعيا في عدم تغيير الموقف العماني من مسائل وطنية كبرى، كولاية العهد ومؤسسة منصب رئيس الوزراء والاتحاد الخليجي، ويعتبر النهج السياسي الحالي من الثوابت المقدسة التي لا تتغير، وهي التي ينبغي أن تكون معلومة بالضرورة بعد أن وجد معاليه هناك تكرارا سنويا لمثل تلك القضايا.
كما ظهر في اللقاء كمستشرف استراتيجي يملك القدرة الذاتية والموضوعية على القيام بعملية المزج بين السياسة والتاريخ والمجتمع لكي يقدم لنا استشرافات للتطورات السياسية المقبلة داخل منطقتنا العربية وبالذات شكل الدولة الإقليمية التي سوف تخرج من رحم التطورات المتسارعة في المنطقة من جهة واختلال علاقة هذه الدولة مع شعوبها من جهة ثانية، مغلبا هنا البعد الديموغرافي (السكاني) كدافع للشكل الجديد للدولة الإقليمية، وهذا استشراف يساير واقعنا العربي، فالشعوب لا الانقلابات العسكرية - بصرف النظر عن حالة عربية عرفت الانقلاب بعد تمزيق الشعب وتكالب المؤامرات الخارجية القوية على اختياراته - قد أصبح محركا للتطورات السياسية الكبرى في المنطقة مثل ما حدث في عدة نماذج عربية حديثة في مصر تونس واليمن، غير أن انتفاضة الشعوب وانتصاراتها لم تكن مسيسة بل وغير منظمة، فلم تحمل مشروعا سياسيًّا أو ايديولوجيًّا .. فدخلت نتيجة لذلك في فوضى عامة وبعضها عارمة حتى الآن، الأهم الذي ينبغي قوله في خلفية الأرضية التي ينطلق منها استشراف معالي ابن علوي أن العلاقة بين الدولة والمجتمع تشهد حاليا دورة زمنية جديدة لم تعرفها منطقتنا العربية طوال تاريخها الماضية بعد فقدان عادلة توزيع الثروات وفقدان المساواة بين الأفراد والجماعات، وبعد أن تنازلت الدولة،، المركزية،، عن مرافقها الاقتصادية والخدمية لصالح القطاع الخاص والأجنبي، ومعها فقدت الأنظمة السياسية المركزية قدرتها على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن، فتنامى الشعور الجمعي والمناطقي بالظلم المتأصل في قناعاته السياسية في قت تشهد فيه قوة الأنظمة ضعف بعد قوة، ومعها أصبح المجتمع في حالتين أما قوة أكبر من قوة الأنظمة أو في مستوى قوتها، وفي حالة عربية ثالثة قد اصبحت قوة الأنظمة مقيدة بمبدأ الشرعية والمشروعية، وهذا بسبب القوة النسبية الجديدة للمجتمع، إذن هل ينبغي أن يستمر نموذج الدولة العربية كما كان سائدا قبل أحداث عام 2014؟ ولو استمر فلربما تتفتت أو تفكك دولا اقليمية كبرى خاصة تلك التي فيها قوة المجتمع أقوى من قوة الأنظمة أو تلك لا تزال قوة المجتمع لم تنفجر فيها، إذن، أي نموذج للدولة العربية ينبغي أن يسود خلال المرحلة المقبلة في ضوء التجارب العربية السابقة وانكشاف واقع العلاقة بين السلطات السياسية ومجتمعاتها؟ هنا تضعنا استشرافات ابن علوي أمام نظامي الفيدرالية والكونفيدرالية، ورهانات انتشارهما تم ربطه بنجاح الفيدرالية في هذا البلد الشقيق المجاور، فالرؤية الاستشرافية لابن علوي ترى أن دولا فيدرالية أو كونفيدرالية سوف تبدأ من اليمن، وهذا يعني صراحة أن نجاح هذا النوع من الدول على أرض اليمن المشتعلة الآن سوف ينتقل إلى بقية الدول الأخرى، خاصة الدول ذات الكثافة السكانية، وهذا معيار حصري في استشرافات ابن علوي، وقد عبر عنه بالقول إن قضية الفيدرالية في الدول ذات الكثافة السكانية فيها الكثير من الحسنات، ضاربا هنا باليمن، حيث يرى مثلا أن (25) مليون نسمة وبلدا ذا موارد قليلة، كيف يمكن له توزيع الثروة على تلك الملايين البشرية؟ غير أن هناك اساسا آخر ومهما يمكن أن تقوم عليه كذلك الفيدرالية، وهو المساحة الجغرافية الشاسعة للدول وبعدها، فدول ذات مساحة جغرافية شاسعة وبتضاريس معقدة وصعبة بصرف النظر عن قدرتها المالية من عدمها، يمكن أن يصلح فيها النظام الفيدرالي، مما يمكن القول هنا، إن النظام الفيدرالي أو الكونفيدرالي يتوقف نجاحه على وجود بعدين أساسيين داخل كل دولة، وهما السكان والمساحة الجغرافية، كلاهما أو احدهما، وهنا نجد أن معظم دول المنطقة سوف تصلح فيها الفيدرالية كخيار عقلاني لحل مشاكلها المعاصرة، والقلة منها قد يصلح فيها نظام الكونفيدرالية، ففي هذان النظامان سيتم تصالح الأقاليم مع بعضها البعض من جهة حيث سيحتفظ كل إقليم بخصوصيته ويضمن مجتمعه المحلي إدارة نفسه بنفسه، كما سيتصالح الأقاليم مع الدولة الجامعة له ككيان معنوي عام سواء كان النظام المختار كونفيدراليا أو فيدراليا ـ وقد شرحنا معناهما وايجابياتهما وسلبياتهما في مقال سابق - وانتقال دول المنطقة إلى الفيدرالية /الكونفيدرالية على انقاض موت الدولة ،،المركزية،، قد أصبحت فعلا حتمية تاريخية، فلم تعد الأنظمة داخل كل دولة في المنطقة تستفرد بالقوة لوحدها، وإنما أصبح المجتمع يشاطرها فيها ـ بنسب مختلفة ـ وحتى هذا المجتمع لم يكن اصلا متناغما ومنسجما بين جماعاته التي تتوزع على أقاليم عديدة ومتباعدة، وكأن استشرافات ابن علوي تقول لنا صراحة، إن شكل الدولة العربية الراهنة قد استكملت تطورها من الضعف، ولم تعد صالحة للعصر الجديد على الأقل بالنسبة للدول ذات الحمولات الديموغرافية الثقيلة، لكننا نضيف إليها كذلك الدول ذات المساحة الجغرافية الشاسعة التي تقطنها جماعات محلية تحتفظ بخصوصياتها الفكرية والمزاجية والاجتماعية، وينبغي بالتالي الانتقال إلى شكل الفيدرالية /الكونفيدرالية التي ستكون فيها الدولة قوية والمجتمع قوي، وهذا التساوي في القوة هي الضمانة في جعل طرفي العلاقة يقبلان أو يتقبلان فكرة الشكل الجديد للدولة المعاصرة، لكن هذا النجاح الإقليمي يربطه استشراف ابن علوي بنجاح التجربة في اليمن، ولماذا اليمن؟ ربما لأنه يشهد حاليا اختبار القوتين - قوة النظام وقوة المجتمع ـ ونرى يوميا أي قوة تنتصر؟ وبعد فترة زمنية قصيرة على استشراف ابن علوي، تم الاتفاق من قبل كل الأطراف اليمنية بما فيهم الحوثيون على تسمية (بحاح) رئيسا للوزراء في اليمن، ويكون مشروع تقسيم اليمن إلى (ستة) اقاليم ضمن اولويات أجندة حكومته، وماذا يعني هذا؟ هذا يعطي قوة استشراف ابن علوي الذي جاء في خضم قوة استيلاء الحوثيين على صنعاء وعلى كل مؤسسات الدولة اليمنية، والتطور الأخير دال على قوة الاستشراف، لكن، ولنفترض الفشل، هل ستدفن الفيدرالية /الكونفيدرالية داخل الأراضي اليمنية؟ إذن، كيف سيكون شكل الدولة الإقليمية؟ فالفشل لن يغير من موازين القوى داخل دول المنطقة ـ قوة الأنظمة وقوة المجتمع - فهل سيعود خيار التقسيم؟ وأيهما أفضل للدول الفيدرالية /الكونفيدرالية أم التفتيت؟