قضية المصطلحات العلمية العربية (6/6)

تحدّثنا في النافذة السابقة عن (أثر التّشبُّث باللغات الأجنبية) الذي حال دون الوصول إلى التأصيل اللغوي وسنكمل سوياً الحديث عن مواطن الخلل في استيعاب العلم من خلال الحديث عن ضعف الأمة العربية، و مناخ القهر غير المواتي للإبداع
ب – ضعف الأمة العربية:
الأمة العربية مجزّأة، وهذه التجزئة سبب من أسباب ضعفها السياسي والاقتصادي واللغوي. وإذا قصرتُ الحديث على أثر التجزئة في الضعف اللغوي لاحظتُ أن تعدُّد المصطلحات للتصوُّر الواحد نابع من أن كلَّ عالم يضع مصطلحاته داخل دولته، دون أن يعرف ما وضعه زملاؤه في الدول العربية الأخرى لضعف الاتصال العلمي بين هذه الدول وندرة التنسيق والتوحيد بينها، ودون أن تكون هناك سلطة مركزيّة تفرض على هؤلاء العلماء توحيد مصطلحات علومهم أو تُشجّعهم على ذلك بتسهيل انتقالهم وحصولهم على المصطلحات والمعجمات والكتب العلمية. وهناك سبب آخر لاختلاف المصطلحات التي وضعها العلماء العرب، هو تباين الثقافة بينهم. فالذين تلقوا علومهم بالإنجليزية التفتوا إلى هذه اللغة في أثناء وضعهم المصطلحات، والذين تلقوا علومهم بالفرنسية لجؤوا إلى الفرنسية في أثناء وضعهم مصطلحات علومهم. وكان ذلك الاختلاف في (المرجعية الثقافية) سبباً من أسباب تعدُّد المصطلحات للمفهوم الواحد على الرغم من أن الدقة تفرض عليهم تحرّي الدلالة في أكثر من لغة أجنبية قبل وضع المصطلح الجديد.
ولا شكَّ في أن التجزئة سبب من أسباب الإخفاق في توحيد المصطلحات العلمية. ذلك أن هناك محاولات جادّة للتوحيد قامت بها جامعة الدول العربية والمجامع اللغوية العربية والاتحادات والأفراد، لكنّ المصطلحات الموحَّدة التي قدّمتها هذه المحاولات لم تُستعمَل في الغالب الأعم؛ لأن السلطات في كل دولة عربية لم تحاول فرضها وإغراء العلماء باستعمالها، فبقي الإقبال عليها تابعاً للرغبات الفردية للعلماء. ونجم عن ذلك بطء شديد في تأسيس اللغة العلمية العربية، عزّزه أمر آخر هو سعي كلِّ دولة عربية للاكتفاء الذاتي بالكتب والمصطلحات واللغة العلمية، كما تفعل هذه الدولة حين تكتفي بنفسها في السياسة والاقتصاد وتبتعد عن التكامل بين الدول العربية فيها.
كيف يتأصّل العلم الحديث في المجتمع العربي والدول العربية تواجه التفجُّر المعرفي والتّغيُّر السريع في التقنيات والبحوث والاكتشافات العلمية منفردةً مجزّأةً مُشتّتة الإمكانات؟. لا سبيل إلى هذا التأصيل إذا لم نضع المصلحة القومية فوق المصلحة القُطْريّة، وندرك ما وعته الأمم الأخرى من ضرورة التّكتُّل والتعاون والاتحاد لمواجهة العولمة والانفتاح المعرفي والغزو الثقافي الهادف إلى محو الشخصية القومية.
ج – مناخ القهر:
الحديث عن القهر في المجتمع العربي ذو شجون، لكنني في حدود الهدف اللُّغوي أتساءل: أليس من القهر أن تتبع الهيئات العلمية (الجامعات ومراكز البحوث والاتحادات) الدولة وتأتمر بأوامرها في الشؤون العلمية؟. إن العلم لا ينمو في مناخ القهر؛ لأنّ حياته مرتبطة بحرية البحث والتعبير. والعالم الذي يلهث وراء حاجاته المعيشيّة لن يُبدع الجديد المفيد. على أن المعادلة، من جانب آخر، تبدو صعبة؛ لأن العمل العلمي مُكْلِف مادّياً، لا تستطيع الإمكانات الفردية النهوض بأعبائه، ومن ثَمَّ كانت هناك حاجة إلى تدخُّل الدولة بإمكاناتها الكبيرة فيه. وقد فهمت السلطات العربية هذا التّدخُّل على أنه السيطرة على جزئيات العمل وأهدافه وتحرُّكات العالم ونفقاته الخاصة والعامة، ولم تفهمه على أنه تقديم العون والرعاية وتوفير المناخ المواتي للإبداع، مما قاد فئـة من العلماء إلى اليأس من سلطات بلادها فغادرت أوطانها غير آسفة، أو حاربت القهر بالتشبُّث باللغات الأجنبية.
إن العوامل الثلاثة السابقة: التّشبُّث باللغات الأجنبية (في نافذتنا اللغوية السابقة) وضعف الأمة العربية ومناخ القهر سبّبتْ خللاً في استيعاب العلم الحديث. وقد أثّر هذا الخلل في تأصيل العلم تأثيراً سلبياً، فأضعفه وأبعده عن أهدافه. وهو خلل سياسي وليس لغوياً؛ لأن ما قدَّمتُه يدل دلالة ناصعة على قدرة اللغة العربية على استيعاب العلم وتأصيله. ويمكن أن أخلص إلى أن التشكيك في قدرة اللغة العربية لا يستند إلى أساس لغوي، ومن الواجب إهمال الحديث عنه لأنه وهم أو أشبه بالوهم، وتوجيه الجهد نحو الخلل السياسي الذي يوهِّن الجهود اللغوية في الحقل العلمي العربي، ويقودها بعيداً عن التأثير في المستوى العلمي للمجتمع العربي.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]