[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]
من صميم الواقع أن تحوم الشبهات حول وجبات الطعام الجاهز، بل إن هذه الشبهات تطول الوجبات التي تحتوي على مواد حافظة ومغلفة جيدًا مع أنها تتضمن تاريخ الإنتاج، وكذلك تاريخ نفاد الصلاحية، وأغلب هذه الشبهات كانت بسبب المزيد من حالات التسمم العامة التي تستقبلها المستشفيات، فهل يصح تطبيق هذا التشخيص على وجبات المعرفة الجاهزة التي نتلقاها يوميًّا في أغلب البلدان العربية على الألسنة التلفازية الفضائية، ومؤسسات إعلامية أخرى وقادة رأي ونخب معنية بالتاريخ وسلفيين.
لا شك أن للمقارنة بعض المبررات إذا اخذنا بالحالة السائدة أن أغلب القوى السياسية المؤثرة في الأحداث الجارية تستمد حضورها وتبليغاتها وقراءاتها للحاضر من خلال الماضي ضمن وصفات جاهزة ترفض أي تشكيك بها وتمتنع من تفكيك خطابها بزعم أنها على صواب مطلق، وأنها في منتهى المصداقية، إن لم نقل في منتهى الدقة، بل إن هذه الوجبات المعرفية الجاهزة تجد في تخوين الآخرين طريقًا لها ضمن قائمة من الشتائم والشكوك والحقد وعدم الإصغاء إلى ما يبث بشأن هذا الموضوع أو ذاك في تهمة أن الآخرين يريدون الشر بها، وأنه ليس من حق أحد أن يطعن في التوجهات التي تعتمدها.
وهكذا يكون أساس الخراب في عدم وجود مؤشرات معينة تلتقي عليها الأغلبية في هذه التوجهات، بل إن الوضع استدعى الكثير من حالات التخوين والإلغاء، وشيطنة الذين لا يؤيدونهم، وبذلك تفسخت دورة العلاقات بين أغلب تلك المكونات، والدليل على ذلك أن جزءًا من الخطاب الديني السياسي يلجأ إلى هذه الطريقة بتشخيص لا يقبل المناقشة.
إن العينة الواضحة على الخراب الذي تتعرض له بلدان عربية عديدة يكمن في هذه النزعة من المعرفة الجاهزة المتكبرة على أي تفكيك لمنهجها، وقد أدى قيام بعض المفكرين العرب في نقد تلك النزعة إلى اتهامهم بقائمة طويلة من (الجرائم) ليس أقلها التكفير والخروج على الصالح العام، وقد ساد ذلك وما زال في المشهد العراقي بشكل لافت من خلال مكونات سياسية وضعت لها تابوتا مغلقا لا يجوز التجاوز عليه ضمن معمعة من النصوص ذات الطبيعة المتيبسة، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي يدفع فيها العراقيون ثمنًا غاليًا من وحدتهم واقتصادهم وأمنهم، ومثل ذلك ولكن بالإطار المعرفي العام دفع مفكرون وقادة رأي عرب أثمان باهظة لسبب واحد هو أنهم حاولوا تفكيك وقائع تاريخية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، ما تعرض له الأديب الراحل طه حسين في قراءته للشعر الجاهلي.
لقد أعاب عليّ صديق أكاديمي شاب معني بالتاريخ السياسي أن اتهامي للطرح التاريخي فيه الكثير من الظلم، دون أن يكلف نفسه معرفة بأنني لست ضد الإبحار في التاريخ، ولكني ضد هذه الكثرة من السفر التاريخي على حساب الحاضر والمستقبل، إذ يكفينا ما تم التنقيب به بوسائل عشوائية من دون الدخول في التفاصيل، وهكذا (اختلط الحابل بالنابل).
لقد سعت الكثير من الشعوب أن لا تكون رهينة الماضي على ما فيه من ظلم وأخطاء وتصورات واهية وإلا ما الذي دفع مجلس العموم البريطاني أن يصوت (274) من أعضائه لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية مقابل (12) عضوًا صوتوا ضد ذلك، إن لم يكن المسعى هو لتصحيح التاريخ، وماذا يدفع العديد من المؤسسات أن تتجه بالاهتمام الأكثر نحو الحاضر والمستقبل إن لم يكن ذلك تحت ضغط حاجة حياتية ضرورية ومنهج أخلاقي يرى أن ينصب الجهد على التحصن للمستقبل.
على أي حال ما ينقذنا عراقيًّا وفي بلدان عربية أخرى أن يتجه الخطاب السياسي والثقافي بسعة أكبر إلى معالجة ما نعانيه الآن من مرارات وتشظٍّ ومتاهات وسباب وقتل وفساد، وأن يكون لنا القدرة على اعتماد منظومة أخلاقية لتأثيث الخصومات بما يرجح المصلحة الوطنية العليا، ورحم الله السياسي العراقي الراحل جعفر أبو التمن عندما قال (لقد دفنت الأخلاق يوم دفن عبدالمحسن السعدون) مع أن السعدون كان خصمًا باسلًا لأبي التمن!!
إن المهارة التي نحتاجها الآن أكثر من أية مهارة أخرى هي ماذا ينبغي أن يكون عليه حاضرنا ضمن توليف حضاري يصون مبادئ التنوع وليس الانغلاق؟