تنقيب عن القيم الأصيلة التي ذابت مع طغيان العولمة

إن التوغل في الذات البشرية للبحث عن مكوناتها الداخلية وفك رموزها، كان هو هدف العرض المسرحي السعودي (الأجساد)، للكاتب رجاء العتيبي وإخراج الدكتور شادي عاشور . ولقد سعت هذه المسرحية إلى تجسيد ثلاثة تماثيل، وهي : الذهبي والفضي والنحاسي، والتي كانت محجوزة في أقفاص زجاجية في إحدى المتاحف الأثرية. لذا كانت بالنسبة للمخرج فرصة ذهبية، كونه استطاع ممارسة طقوسه الفنية حسب نظرية (الكتلة والفراغ)، لذا كان على التماثيل الثلاثة الخضوع لمشرطه الفني الدقيق الشديد الحساسية، وخاصة أن مهمته ككاتب صعبه، لأنه أراد التنقيب في واقعه المعاصر المادي عن القيم الأصيلة، والتي ذابت مع طغيان ما يسمى بالكونية والعولمة بأشكالها المختلفة.
إن المطلع على نص مسرحية (الأجساد) يجد مكتوبًا بلغةً مركزةً وعلميةً دقيقةً، التي تحمل كمًا هائلاً من المعاني والدلالات الرمزية التي عكست الحالة النفسية للأجساد الثلاثة (التماثيل) . كما سعى كاتب النص العتيبي إلى التحليل الجسدي (الفيزيولوجي) للشخصيات، لتعانق شفافية الروح الإنسانية الشعرية، والتي لا تخلو من التأكيد على الهوية العربية، وكأننا أمام مشرط طبي يحلل ويشرح الجسد البشري بغية إثبات هويته، على اعتبار أنه (الكتلة) تشغل حيزًا في هذا الفضاء الكوني، وإن الاستقرار لا يتحقق له إلا من خلال تأكيد هويته: «جسد 1 : ما أشد ضراوة هذا الجسد !! ما أعقد خلاياه وعروقه , ما أن أثبت رزمة من الشعيرات , فإذا بها تنشطر وتتبعثر كأسلاك جهاز عبث به طفل (يفكر) والدم لا يكاد يبرد !.. ما زال حارا تتطاير أبخرته, من أي أرومة هذا الجسد ؟ ..جسد 3 : لا ينبغي لك أن تجهد حالك الآن لقد تأكد لي أنه جسد مقدود من صخرة مباركة, فالمهمة مازالت صعبة المنال، السيطرة الكاملة على جسد عربي الأرومة ليس بالأمر الهين, فلينهار أمامك كما انهارت أبراج كانت تعانق طيور السماء»1 .
ويتطور الصراع بين التماثيل الثلاثة (الذهبي، الفضي، البرونزي) لينتقل من الصراع المادي عبر الأجساد الشاخصة أمام الحضور، ليتوغل في أعماق النفس البشرية، محاولا البحث عن الذات التائه في اللازمان واللامكان!...الأمر الذي يشعرنا بعبثية الحياة، حيث الحديث عن الحرب والسلام، وإظهار وحشية الناس وهم يحاربون بعضهم البعض، لتكون نهايتهم الموت والفناء: «جسد 1 : حسنا هذه المرة سأجعلك تنام, حتى أتابع مهامي إما السلم وإما الحرب حسب مشيئتي وليس مشيئتك, وبالمرة سأفصل عصبا يتجه خلف الرقبة يجعلك تنام ككلب البحر ..جسد 3 : نعم عرفت أنك تعلمني كيف أفصل الكهرباء عن المدينة ..جسد 1 : نم يا صغيري نوم أهل الكهف, ودعني أتابع بقية استحواذي على جسد مسجى لا يصدر منه سوى خوار» 2.
ويتطور ذلك الصراع، ليجد المشاهد نفسه أمام شخصيات معقدة نفسيًّا تبحث عن حتفها، مما يجعلها عرضة للتأثر بتيار المدرسة «التعبيرية» التي تسعى للنبش عن التنافر الطبيعي بين مكونات الجسد الواحد، فكيف إذا اتسعت مساحة التنافر مع الأجساد البشرية الأخرى التي قد تختلف في تكوينها الجسدي المادي عنه؟!.. كما ساعدت الإضاءة والماكياج والأزياء على شخصنه التماثيل الثلاثة، فيما جسدت البُعد الجسدي (الفيزيولوجي) للشخصيات، مع الإبقاء على دلالتها على الفروق الطبقية، من خلال مستوياتها (الذهبي، الفضي، البرونزي)، الأمر الذي جعلها تفصح عن طبيعة التباين بين الشخصيات. ومن جهة أخرى، كان للمخرج رؤيته الخاصة، عندما أضاف شخصيات أقرب إلى الساحرات، وربما ذلك لتأكيد موضوع فقدان الهوية العربية. وإن كان غرسها في المسرحية بهذا الشكل لم يكن موفقًا، كونه هذا العرض يرتكز على التماثيل الثلاثة، فيما كان المتآمرون – الذين يرتدون السواد للدلالة على الشر- يجلسون في مقدمة خشبة المسرح، مما جعل المخرج يخرج عن نهجه الإخراجي إلى أكثر من مدرسة إخراجية، حيث سعى إلى كسر العلبة الإيطالية في عرض كلاسيكي تقليدي.
وعلى مستوى الموسيقى فإن العرض صنع موسيقاه التي لا تنفصل عن إيقاع الجسد البشري، حيث وظفت صوت (ضربات القلب) مثلا، لإشعار المشاهدين بالخطر المحدق على الشخصيات الماثلة على المنصة، الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنهم أمام شخصيات تمثل شرائح المجتمع المختلفة التي يقودها التمثال الذهبي أو القائد، وهي تعاني الكثير، مثل السواد الأعظم من الشعب:»الجسد1 : ما الذي يحدث ؟ إن سرعة ضربات القلب تعني لي الشيء الكثير, ضرباته ليست دفوف ولا طبول .جسد 3 : ربما خطر قادم .جسد 1 : ربما خطر قادم؟ !! لا شيء هنا , ولا شيء هناك . جسد 3 : أو أن الجسد يعاني حمى المتنبي ...جسد 1 : ولكن لا أثر للحرارة فكريات الدم البيضاء والحمراء تسبح في سلام , ليس بينهما حرب ولا صراع ولا قتال3 "
في حين أن المخرج كان مصرًا على أن تكون موسيقى عرضه مزيجا من الموسيقى الغربية والشرقية، واختتم بموسيقى إحدى أغاني أم كلثوم!...كما كانت خلفية المسرح خاضعة له، حيث استخدمت الشاشة السينمائية لرسم لوحة أخرى تداخلت فيها أيضا أكثر من مدرسة، وتنوعت الموسيقى والمؤثرات المستخدمة، مما جعل العرض يقع في هوة تداخل المدارس الفنية، دون التفكير في توحيد أو محاولة على الأقل تجميعها في قالب واحد يحقق الوحدة الفنية للعمل المقدم. وفي المرحلة قبل الأخيرة، بدأت واقعية الجسد وتفاصيله الذوبان، لتحلق بعيدا مع الشعر الحديث، مع أهم رواده في الوطن العربي (محمود دوريش)، من خلال قصيدته الشعرية التي قدست الجسد الفاني وأكدت التواتر العجيب بين (الحياة والموت والنار والرماد)، كما أنها روت حكاية الانعتاق نحو هذا العالم الذي أصبح يعاني فقدان القيم الجميلة كالحب والسلام والأمن، ويمكن أن نتوقف مع الأبيات الشعرية التالية: «حملت صوتك في قلبي وأوردتي *** فما عليك إذا فارقت معركتي ...أطعمت للريح أبياتي وزخرفها « *** إن لم تكن كسيوف النار قافيتي ** آمنت بالحرف .. إما ميتا عدما *** أو ناصبا لعدوي حبل مشنقة آمنت بالحرف نارا لا يضير إذا *** كنت الرماد أنا أو كان طاغيتي ! ***فإن سقطت و كفى رافع علمي *** سيكتب الناس فوق القبر : « لم يمت " 4. ويمكن استشعار مدى تسلط الشخصية القيادية (التمثال الذهبي) في التحكم بمصير الشخصيات كالتالي: « الجسد1: كف عن هذا, لقد هاج الجسد وبدأ يبث نارا داخلية لا قبل لي بها . ..جسد 3 : كف عن هذا . جسد 1 : كفى ... ما هذا الكلام الذي أحال مكاني جحيما اخرسوا هذا اللسان, الجسد يطبخ والأحشاء تستوي والعقل ينضج, لا لا لا . أنا أمام جسد معدني أم إناء كاتم . لا لا لا»5 .
ولعل ذلك يعطينا انطباعًا عن ماهية شخصية التمثال الذهبي من خلال سعيه الدائم للتحكم في التمثالين (الفضي، والبرونزي)، الأمر الذي يشعرنا بضرورة البحث في واقع البشرية، الذي تتحكم فيه القوى والتكتلات الكبرى في العالم، والتي تقمع صوته، وتحد من قدرته على التعبير عن قضاياه الحقيقية. وانطلاقًا من (الجسد الفاني) الذي عادة ما يندثر بنهاية صاحبه، مهما كانت عظمته، ولذلك فإن نهاية الأمم والشعوب تكون بنفس المنطق، حيث يمكن أن تظهر شعوب وأمم، ثم لا تلبث أن تندثر!..وهكذا التاريخ في صيرورته الدائمة: «جسد 2: إن كان للصداقة معنى كمروءة النبلاء فلتبارك بها يدي .. صديقي أعطني يدك وانهض... اغسل يدك المتعبة... يدك تلك التي انغمست في غبار العصور الحزينة ... انهض ... انهض يا صديقي . جسد 3 : كيف ؟ كيف أغسل يدا تمزقت وأدماها التاريخ حزنا ؟ كيف نوقف نزيف حضارات ترملت ؟
جسد 2 : لقد حرثنا تاريخ الأزمنة كلها حتى أصبحنا ظلا حزينا للتاريخ الآثم . جسد 3 : أي رفيق الدرب … كلماتك صقر جارح لا عش له ... كلمات نزفت كل معانيها..جسد 1 : الموت لكم يا أبناء الشعوب الممزقة والحواري القديمة والممرات الضيقة...جسد 2 : دع طائر الليل الجريح يمت بعد أن مل البكاء ... إن الأم التي تنتظر عودة ابنها تنزف ... رحمها ينزف لتلد أطفالا لازالوا ينزفون ... يوما ما قلت لأمي "6.
ولقد راهن المخرج بقدرات الممثلين الثلاثة التمثيلية والاستعراضية والحركية، والذين قاموا بالأدوار الرئيسية، حيث وقع على كاهلهم الثقل الأكبر لتجسيد التماثيل الثلاثة: (الذهبي والفضي والبرونزي)، والتي أكدت أدوارها أهمية البحث عن الذات الإنسانية، ورحلتها في هذا العالم من خلال ثلاثة فنانين.
وأخيرا إن (التجريب) هو روح المسرح وروح الإبداع الحقيقي في المجالات الفكرية والفنية، ولكن التجانس مطلوب، ولو أن المخرج ركز على شخوصه التي رسمها المؤلف، لاستطاع أن يتفرد برؤية إخراجية تمتلك أدوات التجريب، وفي ذات الوقت، يجعل المشاهدين يستمتعون برؤية بصرية، تعايش واقع الشخصيات (التماثيل الثلاثة) ذات الإبعاد الفلسفية، مع التقليل من مساحات الثرثرة الحوارية، لتقديم عرض مسرحي حداثي الطابع، علمي المضمون، إنساني بطابعه التعبيري الباحث عن الهموم الأزلية، التي تقض مضجع الناس في كل زمان ومكان.

1 رجاء العتيبي، مسرحية (أجساد)، مهرجان المسرح الخليجي الثاني عشر2012م، ص1
2 المرجع السابق، ص 3
3 المرجع السابق، ص 4
4 المرجع السابق، نفس الصفحة
5 المرجع السابق، نفس الصفحة
6 المرجع السابق، ص6

عزة القصابية