قدّمت الباحثة كاملة بنت سيف الرحبية للمكتبة العربية دراسة متميزة في الشخصية الروائية وذلك من خلال ثلاثية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي" ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سبيل" وقد طبعت هذه الدراسة في بيت الغشام للنشر والترجمة عام 2013م، حيث أهدت الكاتبة دراستها: "لتلك الشخصيات التي استوطنت الذاكرة بجميل عطائها وصدق محبتها.... لولدي وقد عجزت حروفي عن شكرهما..."، وجاءت كما قسمتها إلى مقدمة وأربعة فصول بالإضافة إلى خاتمة استعرضت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها مع توصيتين دونتهما قبل قائمة المصادر والمراجع التي وصل عددها إلى 60 مصدرا ومرجعا مع قائمة بالدوريات والمواقع الالكترونية.
ناقشت الباحثة في الفصل الأول الشخصية الروائية من خلال مكانة الشخصية وصياغتها روائيا وعلاقتها بالبيئة والزمان والمكان، وفي الفصل الثاني اختيار الشخصية وبناؤها، وطبيعة الاسم كحوافز اختيار الاسم ودلالة الحوافز، وبناء الشخصية من خلال تقديمها وعلاقاتها، وفي الفصل الثالث الأبعاد الفاعلة في الشخصية بينها البعد السياسي حيث قيم النضال وعنف السلطة والعنف على الثقافة والمثقف، والبعد النفسي كالفقد والعلاقات الأسرية والاغتراب المكاني والاغتراب النفسي، وفي الفصل الرابع بحثت الكاتبة في تفاعل الشخصية مع المكان والزمان، فالمكان كاشفا عن الشخصية، والمكان بين الحب والاتهام، والحرية مطلبا، والمكان مدانا، ثم الزمان مؤثرا في الشخصية من خلال الاستباق والاسترجاع.
إن علاقة الشخصية الروائية بالسرد كما وضحت الباحثة علاقة مرتبطة بتحقيق الترابط بين مكونات السرد؛ فمن خلالها يتضح الحدث وتتفاعل العناصر الروائية لتشكل بناء متماسكا حيث أضافت قائلة:" وللدور المهم الذي تضطلع به الشخصية الروائية في النص الروائي، كان اختيارنا لها كموضوع للبحث نهدف به الكشف عن ماهية الشخصية المتخيلة، وعن كيفية ظهورها، وتشكلها وتحدد علاقتها ومدى مقاربتها للواقع، وتمثلها لمغزى النص. والكشف عن بنيتها والتقنيات التي استخدمتها الكاتبة، وساهمت في تضافر الشخصية مع عناصر السرد، وذلك بدراسة التقنيات، وتحليل المضمون".
وقد استطاعت الباحثة من خلال هذه الدراسة تحليل الروايات الثلاث للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي" ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سبيل" والتوصل من خلالها إلى نتائج تخدم قضية العلاقة بين الشخصية الروائية والسرد، وتوضح الرؤية لكتّاب القصة والرواية في كيفية التعامل مع شخصياتهم وذلك من خلال ترك مساحة من الحرية للتعبير عما يختلج في نفوسها من رؤى وتطلعات وأحلام تساهم في تحقيق الهدف الذي بنيت من أجله الحكاية مما يساهم في فتح المجال لهم إلى استخدام التقنيات السردية التي ساندت الكاتب أو الكاتبة للتوصل إلى نجاحات مدهشة عند القارئ في أي زمان ومكان ومن جملة ما توصلت إليه من نتائج ببعض من التصرف الآتي:" اعتناء الكاتبة مستغانمي بالشخصية لتساندها في إبراز فكرتها بدءا بالاسم، باعتباره جزءا من الشخصية وبنيتها، ورسمت شخصياتها باستخدام الأسلوب الاستنباطي معتمدة على المنولوج فتجلى الصدق لعدم وجود مراقبة ومحاسبة من الآخرين، وقدمت الشخصيات الروائية وفق المقياس النوعي إذ لم تعتمد على الأسلوب التقليدي الذي يقدم لنا معلومات في بداية الرواية عن الشخصيات بل يستخلص القارئ سمات الشخصية الموزعة في الرواية بما يناسب الحدث، واعتمدت على الراوي شخصية، وربطت بين العنوان والشخصية، وتميز كل جزء من الثلاثية بطرح يناسب الشخصية، وكان لاختيار الشخصية المثقفة تأثير فاعل في طرح المضمون، وكذلك للثقافة التقليدية تأثير بالغ على الشخصية، وكان الواقع السياسي، والثقافة التقليدية، والإعاقة أهم الأسباب المؤدية لاغتراب الشخصية، ونتاجا لاغتراب الشخصيات عن ذاتها كانت الكتابة والرسم هي الممارسة التعويضية لإثبات ذاتها وتحقيق كينونتها والتعبير عن دواخلها وفكرها، وكان للمكان الأول الذي تشكل عليه وعي الشخصية بأبعاده المختلفة تأثير بارز عليها، وأحب الأماكن للشخصية المكان المغلق، والمكان بما يحمله من أفكار وقيم وثقافة وما يحدثه فيه من مستجدات هو المحدد لطبيعة الشخصية وفاعليتها واتجاهاتها والوضع النفسي الذي تعيشه وهو صدى لما تحمله من حب وكراهية، وتمكن الكاتبة من مقاربة الشخصية بالواقع والربط بين الزمن والحدث".
ومجمل ما أردنا التوصل إليه من خلال عرض دراسة الشخصية الروائية المتميزة في الواقع للباحثة الرحبية أن ثمة علاقة وثيقة جدا بين الكاتب وشخصياته المتحركة داخل الحكاية أو القصة أو الرواية وكذلك بينها وبين السرد بتقنياته الحديثة والتقليدية ومكوناته التي جعلت بناء العمل الأدبي متماسكا، وإننا ندعو كل المهتمين بالسرد والمبدعين في القصة والحكاية والرواية أن يطلعوا على مثل هذه الدراسات التي تنور البصر والبصيرة للمضي قدما في عمليات الكتابة التي تلتفت بدورها إلى التراث وروحه الجميلة والتي يستطيع المبدع مزجها بروح المعاصرة والحداثة.

ناصر الحسني