غضب رؤى الكلمات!
ما هذا الخرافي الذي يجتاحني؟!
للسارق المجنون في جسدي
متاهات ومعنى
ربما سقطت على سيارتي الصفراء ساحرة
فألقت رعبها
أو ربما ذهبت بشهقة حاسد!
تبًّا لهذا الأبكم الأعمى!
يخرب ما بناه الذاهبون إلى المدى
غرقت مدينتنا برمل الموت
والإسفلت
صياد يجيد الصيد
يا ابن العشب أين أبوك
يحملني
تجاه الماء؟
قد رحل المكان
الآن
لا وطن
يقاسمني احتراق الظل
لي سفر مع الإيقاع..
يا أمي
تعبت..
أنا يمزقني الصدى
أتذكر الموتى
فيخنقني الرحيل
أمضي إلى الصحراء
تحترق القصيدة يا سبيل
أنا النهاية بين هاويتينْ
يكفي هنا الفلاح
يمنحني محبته لهذي الأرض..

"غضب" بصيغة التنكير هي العتبة الأولى التي تختارها الذات المتكلمة لخطابها، مدخلة المخاطبين منذ الوهلة الأولى إلى تمدد الدلالات ورهبة المعنى، مستخدمةً بذلك (إغماض الموضوع) تقنية أولية لتفجير القراءات، ولتخفيف هوّة الدلالة يسند المتكلّم كلمة "غضب" إلى "رؤى الكلمات" لتندلق الدلالة نحو سبيل يريد المتكلم توجيه المخاطبين إليها، سبيل تولّد الرؤى في صومعة اللغة، إذ المكان الذي يمتلك فيه المتكلم السلطة كلها، كونه رب الكلمة وربيبها.
يبدو أن الشعاع الدلالي الذي يطلقه المتكلم منذ السطر الأول يحاول أن يفكك ظلمة المعنى بالاستناد على مبدأ قديم مجتلب من الميثولوجيا، تفرّد الشاعر الرائي؛ ولذا يجعل للكلمات "رؤى"، حيث الحقيقة المحمولة على مطية هذه الكلمات، بعيدًا عن زخرف الحروف والواقع، إذ الرؤيا دومًا تعالٍ على سطوة المادة، هيولى الحق المبحوث عنه، وحينئذ ليس ثمة مجال للبهرج وزيف الاطمئنان، ثمة فقط الحقيقة فاقعة كجبروت شمس الظهيرة، ومن هنا تولّد الغضب ضدًّا للرضا والطمأنينة والقناعة، في صورة ماردٍ "خرافي" يجتاح كل الكيان المطمئن ويحيله إلى هباء، إنه استبدال حالة جديدة بحالة، قلق باطمئنان، بحث بركون، سخط برضا.
ثم يبئر المتكلم نظرة هذا الغضب في تفجّره داخله نحو شيء واحد، يبدو أنه هاجس ظل يتتبع كل يقينياته السابقة، ينخر الأرض تحت قدميه ليهز كيانه النفسي أجمعه، وحين يريد أن يصفه للمخاطبين يختار له وسم "السارق المجنون"، حيث الصفتان النقيضتان: السرقة والجنون، إذ كان فعل السرق دومًا ملازمًا للحذر والتعقّل لا للجنون، غير أن ثمة في هذا السارق ما يجعله يشرب كأس طيشه حد الثمالة، بعيدًا عن أي محاذرة أو خوف، خاصّة أن فعله في الجسد ليس مما يمكن إخفاؤه، إذ الجسد بيّن الأعراض إذ لمسه، عكس الروح رفيقة الغيب والخفاء، فكان الفعل في الجسد ظاهرًا يتبجح به هذا السارق بكل عنفوان جبروته، فما يبقى للمتكلم كي يخفف من وطأة هذا الجبروت المتبجح سوى الولوج بالروح إلى مغامرة المتاهات والمعنى للبقاء محلقة عن ثقل ما يفعل في الجسد، إذ تبقى الروح إرثًا للإنسان لا يستطيعه هذا السارق المجنون الذي يأتي على كل شيء.
إن المرور المجبول عليه الإنسان يستحيل حين الدخول إلى حيّز الرؤيا والحقيقة بيانًا واضحًا لكل تربّص يحيق به، تربّص هذا السارق المجنون وبني سلالته؛ ولذا ثمة دومًا في حياة الرائي انعكاس للون الحقيقة، بعيدًا عن رتوش الألوان المزينة، ثمة الاصفرار فحسب، اصفرار الشمس والحقيقة والسخرية والموت، ثم يجلب المتكلم لبيان سطوة الحقيقة وعبثية السارق المجنون صورة سقوط الساحرة، بكل ما تحمله هذه الصورة من دلالة على المفاجأة والصدمة والوجوم، ويسندها بصورة أخرى مجتلبة من التراث الشعبي نفسه: شهقة الحاسد، إذ يغدو كل بهرج الحياة مجرد سراب بفعل سقطة أو شهقة من كائنات خرافية لا فعل لها سوى في الوهم.
هي تفاهة هذا الاطمئنان بالحياة ما يلح عليه المتكلم، حيث زوال كل هذه الجبال من وهم الحياة والطمأنينة والرضا رهين شرارة بسيطة من وهم، وكأننا في حضرة الحياة معلقة بشعرة طفيفة توشك أن تسقط عند أدنى نسمة هواء.
يرشدنا المتكلم بسمتين أخريين إلى "السارق المجنون" الذي يلح عليه بقوة في خطابه، فهو إلى سرقته وجنونه أبكم وأعمى، يدخل من غير صوت يعبر فيه عن استئذان أو شعور، ويخبط خبطًا من غير بصر، فيحشد بذلك صفتين تزيدان في ابتناء صورة كيان جبروتي مسخ، فيغدو البكم معينًا لفعل السرق، ويغدو العمى مقويًا لجذوة الجنون ورديفًا له؛ ولذا يبين المتكلم فعل هذا السارق المجنون الأعمى الأبكم بالملفوظ "يخرب"؛ إذ كل تلك المعطيات الواصفة لا نتيجة لها سوى التخريب، ولئن كان الخراب سنة ماضية يسهل تقبّل وقعها، إلا أنه حين يكون في الذاهبين إلى المدى، المنبتين عن الالتصاق بالأرض فإنه يكون فعلاً أبعد جرحًا وأشد اجتلابًا للغضب، إذ الفاعل بكل هذا الطيش والمسخ، ونتيجة فعله نتيجة مغرقة، تغرق المدينة أجمعها تحت رمله؛ لأنها نتيجة تذهب بالذاهبين إلى المدى، النابتين الذين عليهم وحدهم تقوم المدينة، وحينئذ لا بقاء بعد ذهاب أمل المدى الذي يُخرج من ربقة الأرض.
إنه الموت إذن هو هذا السارق المجنون الأبكم الأعمى، يصرّح به المتكلم بعد كل هذا الغضب الذي يغرقه به كما أغرق هو المدينة كلها تحت رمله، ثم يجعله رديفًا للإسفلت المجبول على الوطء والدونية، والمترسّخ هو ذاته في الوعي الشعبي كرديف للموت من فرط ما ارتبط به.
إنه الصياد الذي يتقن حرفته، ويحشد لها كل ما يزيده إتقانا لها، السرقة والجنون، إضافة إلى العمى والبكم، ولئن كان البكم معين اختباء ومفاجأة، فإن الصيد بحال العمى رديف جنون وتهوّر وطيش ملازم للموت.
ثمة دومًا نزاع بين التمرّد والواقع، فإما الرضوخ وإما التسليم بهذا الصراع الدائم وتحمل مشاقه ومضائقه، ولما كانت الذات الشاعرة مجبولة على الانعتاق من ربقة الأرض وواقعها فإنها تختار التمرّد دومًا على حزّ القيود، إلا أنه قد يحين منها وهنٌ حين تُسلَق بالألم وترى قهر الواقع؛ فتحنّ إلى الغياب وتسلم الزمام لسطوة الموت الجسدي؛ ولذا يصدح نداء المتكلّم:
يا ابن العشب أين أبوك
يحملني
تجاه الماء؟
ملصقًا هذه المرة صفة (ابن العشب) للموت، ولئن كان العشب دليل حياة في واقع الوجود، إلا أنه في واقع الخطاب وسمٌ للموت من جهة كونه علامة لقبور الضحايا، فيتوجه إليه المتكلم سائلاً إياه عن أبيه العشب رديف الحياة، إذ حتى الموت نفسه يأتي من سلالة الحياة، إلا أنه ابن يمحو أباه بمجرّد أن يولد، يُفني ليحيا، ويطمس كل سبيل يدلّ على الحياة/الماء.
وحينئذٍ ينطمس الوطن وكل المكان، وتغدو الذات غائبة في الفراغ، حيث التلاشي عن الوجود الواقعي هو السيّد المطلق، وقتها يعود المتكلم إلى ما به صعّد خطابه: رؤى الكلمات، فينتشل نفسه من سطوة الغياب بالإيقاع.
هي اللغة إذن مرساة النجاة من طغيان الموت، وتبقى الذات محلّقة بها تراقب ما يفعله الموت في الوجود، تستمع إلى الصراخ فيهز أعماقها صداه المدوّي، ترتسم في ذاكرتها صور الموتى الذين أتى عليهم هذا السارق المجنون فتختنق بالذكرى، تدلف إلى صحراء الوهم، وهم الحياة، فيحترق فيها الأمل، ويعيدها وهج الموت المحرق من عليائها الآملة إلى الرضوخ لواقعه الجبري، ويمحو من أمامها كل سبيل يُشعرها بأن حولها هناك من يجيب نداءها ويتنفسها؛ ولذا تظل هي بدء الحياة البرزخية ومنتهاها، الجزيرة المتبقية للحياة، أما الموت فمحيط هادر حولها، وحينئذ تبقى متمسكة بتلك القطعة المتبقية من النجاة، تحرثها باللغة لتصمد في وجه الموت.

مبارك الجابري