هل خلق الخيال من عدم ؟ أم نحن إزاء خيال تركيبي ؟ وهل من إبداع في هذا الخيال ؟و ما حقيقة هذا الإبداع؟
الخيال هو تركيب إبداعي فني لعناصر حقيقية واقعية و تاريخية فهو خيال موّلد و مشتق و ليس مبتدعا أو مستحدثا ، فهو إذا ضرب من التخيّل المبدع لا التخيّل الوهمي أو المبتدع و الفرق بينهما هو أن الأول يستمد عناصره من الوجود فيركبها تركيبا جديدا في حين أن الثاني نسيج الأحكام والرؤى على نحو لا صلة له بالوجود الحقيقي.
إذا فالإبداع ليس اتيانا بالمستحدث العجيب والغريب وإنما هو إعادة صياغة للموجود القديم وفق وجهات نظر أصحابها المختلفة. حيث يتحوّل الفنان من هذا المنطلق إلى خالق لواقع خاص به بمختلف تجلياته ووفق أسلوبه، باعتباره منطقة خاصة بين جدّ و هزل فيه إقامة بين ثنائيّات وجدلياّت كالحضور والغياب. وهذا ما أتاه الفنان التشّكيلي الليبي عادل فورتيا، وهو من مواليد مصراتة 1970 ، وقد شارك في العديد من المعارض الجماعية وله عدة معارض فرديّة في مختلف أنحاء العالم، تعترينا ونحن بصدد أعماله أحاسيس مختلفة وكأننا أمام حكايا خيالية و سرديات شعرية للوصول إلى أصل الكائن وجوهره. من مظاهر الحكايا الخيالية في أعمال الفنان ،هي شخوصه المتكررة في جل أعماله و التي جاءت في وضعيات مختلفة أما فردية أو جماعية بمثابة رجع صدى لأوجاع الكائن والأمة. وكأنه جمعها من أزمنة متباعدة فهي جاهلية ومعاصرة ،بربرية وإسلامية ....وغالبا ثورية، شخصيّات تقمصت أدوارها على عجل على جل المساحات لديه تميّزت حينا بسوادها الحالك و أحيانا أخرى باخضرار متوهج، تحاور بعضها بعضا من لوحة إلى أخرى وأحيانا داخل نفس الإطار كائنات موجوعة وحالمة تملؤها التناقضات ،كأنها تعكس لنا الوجود بمختلف تناقضاته.
تتكلم شخصيّاته المختلفة لغة بصرية واحدة رغم تبايناتها من خلال جغرافيا اللوحة والزمن، تسكن شخصيات عادل فورتيا الهوائية المتسامية عن قواعدها أمكنة أسطورية ،غريبة ،أمكنة تجمع الموتى والأحياء والكل رغم ذلك لا ينكر معرفته بالأخر، أعمال تعكس التصاق عالم الأرض بعالم السماء، وكأنها كائنات انتفضت من القبر وحضرت حرصات القيامة (مساحات أخروية) في تجاور مادي بين الجنّة و النار وبين الجحيم والحشر اعترافات فنان سكن بين الحقيقة والخيال. زمن الحكايا لدى فورتيا زمن سرمدي طبع لوحاته بلازمانيته، أحداثه خرج بها عن المألوف والمعقول إلى اللامتوقع، تحوّل الشخوص وانتفاضهم، فوضى في شكل تداعيات عبثية لكائنات مفككة، شخوص الفنان لا وجهة محددة لها يتسكعون في أرجاء اللوحة دون دليل مباشر سوى دليل الكائن المتشظي بين الموجود والمنشود.
ما يظهر للعيان أن الفنان يسير على غير منهج ولكن التأمل الجيد يمكننا من ملاحظة تجريد الأعمال من النظام المحكم عن قصد مناظر مختلفة وحوادث متفرقة ومقابلات شتى بين أمكنة متعددة وأشخاص متباينة حيث يلوح لنا نظامها مهمّشا وجزئيا تكلّف شكلي بل لوني يجعل اللوحة ساخرة بألوانها وأشكالها الإعتباطية والمختزلة علنا.
الإختزال أسلوب أساسي في عمل الفنان عادل فورتيا، لدى هذا الأخير مقدرة كبيرة على ربط الأشياء بعضها ببعض بطريقة ساخرة ،تجريد كليّ للشّكل الآدمي من بناء محكم و هذا ليس اعتباطيا حيث تفقد الأشكال والألوان أحيانا شاعريتها وجمالها كردة فعل نفسية على رداءة الواقع وحالة التوهان التي تصيب الكائن. نصوصه بصرية تحتوي الكثير من المد والجزر، تعمّد الفنان أسلوب السخرية من خلال التداخل والفوضى حتى لا ينتهي القارئ إلى حقيقة بذاتها فالفوضى تقنية لحماية الذات من المباشراتية.
يهتم عادل فورتيا بالسخرية من شكلها وفي مضمونها ومقاصدها حيث تفيد المعنى وضده ، نقيضه، تفيد معنى الامتلاء والفراغ في آن فضاء الأعمال فضاء مقدس لدى الفنان يقتضي سلوكا و قيما معينة من قبله ،حيث يقلب المواقف الجادة من عدة أمور إلى مشاهد ساخرة تعتمد مفاجأة القارئ بما لا يتوقعه من حيث التقنيات وطرق المعالجة الخطيّة .
كأني بالفنان بصدد الكتابة بأسلوب السرد الاسترجاعي بالومضة الورائية ،استعارات كثيرة تمّ توظيفها لخدمة أغراضه ،أعمال الفنان تجمع بين السخرية كأسلوب للنقد والإصلاح وبالتالي فالمعنى هنا هو الهزل والسخرية من الشخوص التي يرسمها وهو التعبير بعمق عن موقف لأنها تخفي وراء مشاهدها البهلوانية أزمة وألما وبذلك تتحوّل السخرية إلى فضح وتعرية لخفايا مجتمعات أفلست أخلاقها وتفككت علاقاتها وتدهورت مثلها و قيمها مما يؤكد أن السخرية في أعمال هذا الفنان ليست شكلا من أشكال التعبير فقط وليست عنصرا أسلوبيا وإنما بالأساس هي موقف فلسفي يكشف عن مرارة وألم ولها بعد وظيفي هادف. أعمال جمعت بين الخيال المشّتق من واقع موجود بين الهزل والجد كعملية واعية و بناء ذهني ليس بفوضوي وعديم النظام فخربشات الفنان الساخرة بالباستيل والأحبار والأقلام والكولاج وغيرها من التقنيات عمل مفكر فيه يظهر الفوضى و التداعي ولكن في العمق يخضع إلى طريقة و نهج واستراتيجيا مدروسة، فالفنان واع بمستلزمات الرسم و متحكم في فنه هو الذي يسطّر لبناء عالم أعماله ويبني انسجامها الداخلي والذي يظهر للعيان وللوهلة الأولى فوضويا ساخرا.
أعمال الفنّان وخاصة تلك التي تخصّ وجوه الثورة هي موقف احتجاجي وألم ورفض لقتل المتظاهرين إبان الثورة الليبية برصاص في الرأس فجاءت وجوهه غاضبة متألمة ومغتصبة هي بمثابة موقف من حال العصر ورداءة القيم و تهافت البشر وتفشي الديكتاتوريات وقمع الحريات. نزعة فنان ملتزم بالنظر إلى قضايا المجتمع متميز بجدية الطرح من خلال ألوانه وخطوطه يسرد لنا انفعالاته ورفضه لهذا الواقع الذي بات يؤلم أكثر من أي وقت مضى،حيث تتأسس اللوحة الساخرة و الناقدة للواقع مهما كان الغرض أو الوقت أو المكان الذي تتنزل فيه على ذات بشرية مخصوصة تمثل بوتقة تستوعب المعاني على اختلاف أبعادها و ليست هذه الأعمال الفنية إلا مطيّة أو ركحا تتحرك في فضائه هذه الهلوسات بتقنيات مختلفة هجينة و متجانسة في أن أجساد تتلوى رسمت بطريقة طفولية ساذجة وساخرة كأنها قادمة من عالم الأحلام و الخيال خيالات طويلة بطول وعمق تفكير الفنان.
تراوحت أعمال الفنان خلال مختلف فترات تجربته بين تجريد وتجريد أخر يتعدى كلاسيكيته إلى أخر مبتكر حالم غاية في الاختزال حيث بإمكانه بثّ أقوى الرسائل الناقدة للواقع بشفرات ساخرة بمختلف تجلياتها بخربشات وألوان إقل ما يقال عنها طفولية عابثة وراء كل تلك التلقائية يسكن عمل الفنان السارد البارع بالخطوط والألوان ،تلتقي بياضاته بمساحاته الملونة لتؤثث مساحاته وتكتمل الحكايا وتسرح بخيالاتنا بعيدا من خلال ما تقدمه لنا من إيحاءات من خلال تلك الأشكال والرموز التي يصنعها وهو يتأمل نفسه والعالم المحيط به والذي لا يعتبر موضوعا ميتا بل هي أجزاء منه وتصبح فيما بعد نتاجا لعمله أو ربما هي على حد رأي هيجل الذي لا يرى في أدوات العمل مجرد أشياء ميتة إنما هي تجسيدا حيّا لجوهر الذات، فنتاجات الفنان تحمل بصماته وفي امتلاكه لها امتلاك لوعي الآخر لأنه ليس وجودا مستقلا بذاته فهو خاضع للأخر ومتفاعل معه فمدلولات العمل الفني هنا تأخذ اتجاهات مختلفة وأحيانا متناقضة لأنه يلعب دوره في نقد الواقع بماهو عالم من الأشباح والأوهام التي ترمز إلى عالم فورتيا الأخر والذي يتسامى عن الموجود بماهو منطلقا منه لتجاوزه.
الفنان من خلال أعماله يظهر لنا في حركة جدلية وتعبير لانهائي عن فكرة نابعة من صميم الواقع وهذا يحيلنا إلى الفلسفة الماركسية التي حمّلت الفن رسالة وأعطته دورا كبيرا سواء كان على صعيد المجتمع أو على صعيد المنجز الفني في حد ذاته ،حيث أخذ فورتيا على عاتقه إعادة خلق الأشياء وخلق عالم من جديد ،حيث يمثل حافزا لخلق علاقات جديدة بين عناصر مستمدة من الحياة و المجتمع ،الذي حمّله رؤى إنسانية بنقلها موضوعات اجتماعية تعبّر عن موقف محدد من حدث محدد كأعماله حول القضية الفلسطينية ،أو لأحداث كل من سوريا ، وليبيا.
تبرز أهمية أعمال هذا الفنان بأنها تجسد مرحلة معينة من حياة مجتمع معين محاولا في نفس الوقت أن يكون متجاوزا لكل ماهو آني و ظرفي و مباشر حيث يؤمن الفنان أن الفن يستمد قوته من المجتمع الذي يعيش فيه. نخلص في نهاية هذه الرحلة بين أعمال الفنان عادل فورتيا إلى أن تجربته بحث دائم و تساؤل قلق عن معاني وقيم جديدة بأسلوب جديد ساخر لبعث رسائل متجددة و لهذا ارتبط فنه مباشرة بدلالات اجتماعية لها عدة مضامين تتفرع عنها منها السياسية والأمنية ....وميل الفنان واضح إلى الدعوة إلى السلام في مختلف وجوهه والعمل على احترام كرامة الإنسان و حقوقه و حرياته، وبالتالي تحرير الإنسان من كل اغتراب وإعادة إنسانية هذا الكائن عن طريق الخلق الفني كوسيلة للوصول إلى التحرر وكمساحة نفسية تحمل دلالة المرحلة ترمز بدورها إلى الانطلاق والامتداد والتحرر من القيود الاجتماعية والدكتاتورية والقيم الضاغطة التي من شانها أن تقمع الكائن داخل سجن كبير يسمى وطنا...

دلال صماري
باحثة وفنانة تشكيلية