متابعة ـ خميس السلطي:
الحقيقة جزء من العظمة، جزء من الحياة التي دائما ما تؤرخ لأمر جلي، هكذا عهدناها، ويوما بعد يوم، نسمع ونشاهد ونتلمس الكثير من الحقائق حولنا التي تأخذنا الى العظمة بأشكال شتى، بالأمس القريب، أظهرت لنا الحقيقة أمرا جليا، هذا الأمر أخذنا إلى العظمة، تمثل في إظهار قمر إفريقي أضاء الكون من الشرق، من هنا، من عمان، حيث نشأته الأولى، وجذور أجداده الضاربة في مجان، أرض الحضارات واللغة والبيان، ثم غاب لتسافر روحه وتعانق السماء أكثر فأكثر من جديد، ثمة تغريدة لأحد الأصدقاء قرأتها يوم رحيل هذا المفكر الإنساني الفكري العظيم، استقيت منها أمرا قد يبدو عاديا ولكنه عميق، تمثل أن (الأشياء الجميلة تأتي متأخرة). نعم بالأمس القريب رحل عنا المفكر ذو الأصل العماني العربي الأفريقي الشيخ علي الأمين المزروعي، فنحن وبكل أسف لم نكن قد تعرفنا عليه بصورة كبيرة من قبل وهذه حقيقة لا يمكن التنصل منها وقد نكون شركاء في هذا التغييب، هذا المفكر زار السلطنة والتقى بعدد من المعنيين والمسؤولين الذين يشرفون على القطاع الإعلامي وكنت أتمنى شخصيا أن أتابع ندوة تتعلق بحياة هذا الإنسان الذي لم تبق دولة في العالم إلا وقد ذهب إليها، ناهيك عن المؤسسات الفكرية العلمية التي تستقي وتنهل من فكره اللامنتهي، يكفي أنه عندما توفي تسابق رؤساء العالم بإرسال التعازي لأهله وذويه، فالصور التي تحصلنا عليها تشهد إن هذا الإنسان لم يكن عاديا وإنما مختلف في كل شي، فهناك مثال بسيط على ذلك وهو عندما علم رئيس الوزراء التركي، "أحمد داود أوغلو" بوفاته نشر رسالة تعزية رسمية بالأمر وأفاد داود أوغلو في رسالته التي نشرت على موقعه في الإنترنت، أن المزروعي سيبقى خالدا في الذاكرة، من خلال مجهوداته الكبيرة من أجل إرساء السلام، وفض النزاعات في قارة أفريقيا. وقال داود أوغلو في رسالته: "البروفيسور المزروعي شخصية كبيرة، أغنى العالم بأفكاره وكتبه ومؤلفاته، سعى جاهدا من أجل الاستقرار في كافة أنحاء العالم خاصة قارة أفريقيا، ساهم بذكائه الحاد في حل المشاكل والاضطرابات، من خلال ترأسه للعديد من المنظمات والمؤسسات العلمية والأكاديمية". ولو حاولنا التعرف وأن نكون أكثر قربا من هذا المفكر العظيم فهو علي الأمين المزروعي المولود في 24 فبراير 1933 في ممباسا، كينيا والمتوفى 13 أكتوبر 2014 بعد رحلة صراع مع المرض حيث ودع الحياة عن عمر يناهز 81 عاما، فهو مفكر عماني الأصل أفريقي مسلم يعد من أكبر مفكري القارة الإفريقية. وهو قطب الجناح اليميني في الدراسات الأفريقية. وله صولات وجولات في كل الدول الإفريقية تقريبا وفي أوروبا والولايات المتحدة التي درّس فيها آخر ثلاثة عقود أستاذاً للإنسانيات ومديراً لمركز دراسات الثقافة العالمية في جامعة بنكامتن في بنكامتن، نيويورك. المصادر تؤكد أن الشيخ الأمين المزروعي لم تقتصر رؤيته على إفريقيا فقط، ولكنه تعدى ذلك إلى نظرته إلى ما يحدث في العالم كله من تطورات سريعة وجذرية. فقد نقل أن والده كان يعدّه لكي يكون شيخا أزهريا إذ كان يزمع إرساله إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ولكن ظروفا طارئة حالت دون ذلك. هو فخور بهويته الإفريقية والإسلامية في الوقت نفسه وله تحليلات عميقة لما يجرى في العالم الإسلامي.
ودرس الشيخ الأمين المزروعي في جامعة مانشستر في بريطانيا وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة أكسفورد وقام لمدة عشر سنوات بعد ذلك بالتدريس في جامعة ماكريري في أوغندا. ومن هناك أنطلق الشيخ المزروعي نحو العالم وألقى محاضرات في دول عديدة في القارات الخمس وخاصة في جامعات الولايات المتحدة ورأس معهد "دراسات الثقافة الدولية" في نيويورك. وقد قام بزيارات للعديد من الدول العربية وخصوصا مصر حيث ألقى محاضرات في عدد من جامعاتها. وفي الولايات المتحدة لم ينس هويته الإسلامية فهو من أعضاء مجلس إدارة "المجلس الإسلامي الأمريكي" في واشنطن ورئيس مجلس إدارة مركز "دراسات الإسلام والديمقراطية"، ويشارك في مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون في واشنطن.
للشيخ الأمين المزروعي رافد أدبي زاخر فقد ألّف أكثر من عشرين كتابا أبرزها "نحو تحالف إفريقي" في العام 1967 وذلك في خضم الحرب الباردة وبزوغ أهمية العالم الثالث الذي اتجه جزء كبير منه نحو الاتجاهات الاشتراكية، وكذلك "المفاهيم السياسية للغة الإنجليزية" العام 1975 و"علاقات إفريقيا الدولية". وله مقالات عديدة في مجلات وجرائد عالمية من "النيويورك تايمز" إلى مجلة "التايم" إلى "الجارديان"... وغيرها ، كما إنه متزوج وله خمسة أبناء حرص بنباهة منه على أن يطلق عليهم أسماء إسلامية إفريقية مثل جمال - كيم أبو بكر- فريد شينيدو- حارس إيكنشوكو.
في محاضرة له بالسلطنة اقيمت له في فبراير 2013م بجامع السلطان قابوس الاكبر ببوشر بعنوان (الإسلام في القرن الحادي والعشرين.. الفرص والتحديات) نشرت "الوطن" جزءا منها تحدث الشيخ علي الأمين حول التحديات الجديدة التي تواجه الإسلام في القرن الحادي والعشرين ومتغيراته المتسارعة التي لا بد من المسلمين ان يواكبوها بقدر من الوحدة والتآخي والوئام وذلك بأخذ زمام المبادرة لتحقيق الوحدة الإسلامية وإنشاء مركز موحد لإصدار الفتاوى.
وأكد في محاضرته إلى ضرورة تغير نظام التعليم في البلدان الاسلامية حتى يستطيعوا أن يواكبوا التقدم الذي تشهده هذه المرحلة ، كما تناول المزروعي السمات الرئيسية للوضع الدولي الحالي واتجاهات التكنولوجيا وكيفية إتمام التنمية التكنولوجية كوسيلة لتحقيق التقدم في البلدان الإسلامية. وتحدث المزروعي عن دور المرأة في المجتمع وضرورة ألا تحيد عن ذلك الدور الذي حدده لها الإسلام الذي يدعو إلى ضرورة القيام بالواجبات في حدود الشريعة الإسلامية.

رأي المزروعي حول العولمة
المصادر تشير إلى أن أبحاثه وأعماله لا تعد ولا تحصى وقد انتبه الشيخ المزروعي إلى ظاهرة العولمة وتأثيراتها على قارة إفريقيا. فهو يرى أن هذه القارة في القرن الحادي والعشرين ستكون معقل آخر المواجهات بين قوى العولمة التي ستنتهي إما بالإيجاب أو السلب، فالعولمة لها خصوم وأنداد. ورأى أيضا أن إفريقيا أصبحت مهمشة عن النسيج العالمي، ويستشهد على ذلك بوجود جامعات في الولايات المتحدة بها أجهزة كمبيوتر يفوق عددها كل الأجهزة التي توجد في دولة إفريقية بأكملها يزيد عدد سكانها على عشرين مليون نسمة، ويشير الشيخ المزروعي في إحدى كلماته عن العولمة، إنها في حد ذاتها مصطلح حديث ولو أن المفهوم يرجع إلى قرون عديدة بتفاعل أربع قوى رئيسية هي: الدين والتكنولوجيا والاقتصاد والإمبراطورية.
ولذلك فإن عولمة المسيحية، على سبيل المثال، بدأت باعتناق الإمبراطور قسطنطين الأول في روما لهذه الديانة عام 313، ما جعل المسيحية هي الديانة السائدة، ليس فقط في أوروبا ولكن في كثير من المجتمعات التي حكمها الأوروبيون. وعولمة الإسلام لم تبدأ بتحول إمبراطورية قائمة إلى الدين الإسلامي ولكن عن طريق بناء إمبراطورية مترامية الأطراف من لا شيء تقريبا. فالأمويون والعباسيون ربطوا أجزاء من إمبراطوريات شعوب أخرى مثل الإمبراطورية البيزنطية السابقة في مصر وإمبراطورية فارس وأمكنهم بذلك خلق حضارة جديدة تماما.
وتصارعت في بعض الأحيان قوى المسيحية والإسلام، وفي إفريقيا فإن الديانتين تتنافسان للحصول على أتباع جدد. وخارج نطاق الشمال الإفريقي وحوض وادي النيل، فإن المسيحية والإسلام قامتا منذ القرن التاسع عشر بدعم قواهما، فالمسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام أصبحت كلها قوى للعولمة الثقافية. كما أن الرحالة المستكشفين كانوا أيضا من القوى التي ساهمت في العولمة مثل "سبيك" في أوغندا، وكريستوفر كولومبس في أمريكا.
أما الاقتصاد والإمبراطورية فقد كانا من أهم الدوافع التي حركت الإنسان في العصور الحديثة إذ أدى ذلك إلى خلق ظاهرة هجرة البشر، وأصبحت الولايات المتحدة على سبيل المثال تعبيرا أو مرآة لسكان العالم حيث تكونت كلها تقريبا من مهاجرين من شتى بقاع الأرض. ولذلك يرى المزروعي أن إيجاد أمريكا هو تقريبا إيجاد لمجتمع عولمي مثلما أدى اكتشاف منابع نهر النيل إلى إيجاد العالم الذي كونه رمسيس الثاني في مصر أو إمبراطورية البانتو في شرق إفريقيا.
وتمثل الثورة الصناعية في أوربا فصلا جديدا مهما في تاريخ العولمة، إذ شهدت تزاوج التكنولوجيا مع الاقتصاد، وهو ما أدى إلى ظهور أنواع من الإنتاجية غير المسبوقة من قبل، كما أدى إلى ازدياد شهية أوروبا لغزو دول أخرى بعيدة.
إذ توقع المزروعي أن استمرار قوى العولمة في القرن الحادي والعشرين حيث يمكن التنبؤ بأن هذه الظاهرة ستعمل في نطاق ثلاثة أطر منفصلة هي: القوى التي تعمل على تغيير الأسواق العالمية وإيجاد نوع جديد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين أطراف العالم المتباعد بحيث تتأثر دولة مثل أوغندا بذلك من دون أن تكون مركزا لها. والثانية هي قوى مجتمع المعلومات التي تتيح توسيع قاعدة الحصول على ذلك عبر العالم وهو ما سيخلق هوة ضخمة بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة التي لا تدخل ذلك في أنظمتها.
والثالثة هي تلك القوى التي تحيل كل العالم إلى ما يسمى "بالقرية الكونية" التي تجمع في إطار واحد المسافات والثقافات والحركة مع الإقلال من أهمية الحدود السياسية في الوقت نفسه. ووصف الشيخ المزروعي في حديث له عن هذه الظاهرة التي طغت على العالم بكل أحداثها أم القرن العشرين بأنه القرن الوحيد في تاريخ العالم الذي شهد إنشاء منظمات دولية من عصبة الأمم إلى الأمم المتحدة كما أنه القرن الذي شهد أيضا إنشاء البنك الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بل إقامة أول جامعة دولية هي جامعة الأمم المتحدة في اليابان. بعض هذه المؤسسات أثر على إفريقيا أكثر من غيرها.
صراع للحضارات
في لقاء أجري للشيخ المزروعي مع قناة المهاجر أكد أنه لم يك يوما ما على إتفاق مع الرافضين لمقولة صراع الحضارات لكنه لم يك كذلك على إتفاق تام مع المفكر هانتينتونج.
فالصراع حسب البروفسور المزروعي ليس بجديد بدليل أن الغرب كان في عداء لغيره من الحضارات على مدار القرون الخمسة التي مضت.
وأكد في مجمل حديثه أن ما يعرفه العالم اليوم هو نوع جديد من الصراع أملاه غياب التوازن في خريطة التوازنات العالمية بعد إنهيار المعسكر الشرقي وعلى العالم الإسلامي العمل بسرعة لتغيير هذا الوضع وخلق فرص للوجود ضمن معادلات أكثر إنصافا للعالم الإسلامي.
في محاضرة فكرية أقامتها مكتبة الاسكندرية عام ‏2006 للدكتور الشيخ علي الأمين المزروعي ألقى من خلالها رؤية حول ما إذا إفريقيا في طريقها للاندماج مع الوطن العربي‏، أم لا ، ففي هذه المحاضرة تحدث الشيخ المزروعي عن خطاب الاختلافات بين الحضارات والثقافات وكيف يزداد عدد المتحدثين بالعربية في أفريقيا مع انتشار الإسلام والافكار والمفاهيم الإسلامية مشيرا إلي أن أشهر لغتين في إفريقيا السواحيل والهوسا اللتين تتشابهان كثيرا مع اللغة العربية وتأخذان عنها فمصطلح أفراربيا لا يعبر عن التفاعل بين الكيانين العربي والأفريقي بل إلى مرحلة الانصهار، مبينا في حديثه ان الاتجاه الذي تسير فيه العلاقات العربية والأفريقية يتجه إلي التوحد ضد ظاهرة الارهاب كما لم يغفل أسلوب الاقتصاد السياسي الذي يجمع بين أفريقيا والوطن العربي‏، وكونه لا يحاول تغييب اللغة العربية في مجمل أدوات تواصله فقد أشار إلي ظاهرة العروبة الأفريقية أو الأفارقة الذين تأثروا بالعروبة وان لم تتغير لغتهم مثل الصوماليين والسواحليين الذين تبدو ثقافتهم عربية اسلامية وان احتفظوا بلغتهم وهم العرب الذين ينتمون لأفريقيا جغرافيا ويظهرون كأعضاء مهمين في جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي مثل موريتانيا وجزر القمر‏.‏
الشيخ علي المزروعي يعتبر واحدا من أبرز 100 مفكر في العالم حسب مسح قامت به مجلة فورين بوليسي الأميركية سنة 2005، نظرا لإسهاماته الكبيرة في المجال الأكاديمي.