على وتر الفن التشكيلي نواصل رحلتنا الإيقاعية لنستمع عبر دندنتها إلى أجمل الألحان وأروعها. وفي هذا اليوم يحطُ لحن الفن احساسه على نغمٍ أطرب الكثير ممن تأمل عطاء هذا الفنان التشكيلي، الذي أطل على مشهد الفن التشكيلي من أجمل أبوابه وأمتع العيون بجمال عطائه وروعة بنائه المستمد من ينبوع احساسه الاصيل بالجمال في كل مشاهداته. فنان عُرف عنه بأنه يؤثث اللوحات في شكل مقاطع لونية ومشهدية تنم عن تأليف وسبك احترافيين حتى أتت أعماله بليغةً من حيث التأثير والتخيل والتصور، ويختفي وراء هذا الفنان الهادئ فكر تشكيلي تميز بالتوهج والحضور والإتيان بمفردات فنية مستمدة من بيئة وطنه وتراثه معتمداً أثناء طرحها في لوحاته على البساطة في التكوين مع التأكيد على اللقطة المشحونة داخل صدره المليء بالمشاعر وعبر حوار لوني مبهر يضفي على أعماله نوعاً من الإيقاع السيمفوني ، وأجمل ما في عطاء الفنان إدريس الهوتي أنه يطلعنا على قدراته الإبداعية في التخلص من القوالب الجامدة في الفن والتحرر من الالتزام بنقل المرئيات المشاهدة كما تبدو له خلال الرؤية العادية إلى تكوين مبتكر ذي صياغة جديدة تعتمد على التلخيص والتحوير بأسلوبه الفني الخاص محتفظاً في ذات الوقت على جوهر العنصر الذي يحاكيه في أعماله. والمتتبع لأعمال إدريس الهوتي يلاحظ مدى تمتع الفنان بالحس العالي لخلق مصالحة في أعماله بين العناصر الآدمية والحيوانية والنباتات والحروف ومختلف الجمادات لتصريف دلالة الحياة بكل رموزها في حركة إيقاعية خاصة بطلها اللون والخط. وعبر هذا العمل الماثل أمامنا نلمس كيف أناخ الهوتي نسيجه اللوني في تناغم بديع مع المتخيل الأنثوي بكل ما يحويه من ارهاصات وجودية وقيمة إنسانية، فخارج ثنائية التجريد التشخيصي تراه يرسم انطباعاته الحسية بصيغة المؤنث ويجرنا إلى لقطات الوجوه والانطباعات الكامنة في داخل هذا الكيان الانساني الجميل بأسلوب جزل أنيق، فحالات نسائه الروحية ولقطات العيون ــ بهذا الاسلوب التكعيبي المجرد ــ تقدم انطباعات متغيرة حسب حالة كل منا وتخيلاتنا المجازية . كما أظنه أيضاً يود أن يلفت نظرنا بأن المرأة لها دفقها الملحوظ في كل سكنات هذا العالم وحركاته وذلك من خلال الاسلوب التقني الذي اعتمد عليه لرسم وجهي المرأتين في تشابك وتراكب مع الحركات الهندسية للعمل التي توحي ببناء معماري تَظهر الانثى من خلاله بذات تركيبة الالوان التي اعتمد عليها الهوتي في التكوين اللوني للعمل، وأضاف لها حياة أخرى من خلال لقطة سعف النخيل المجردة في أعلى العمل التي أشعرتنا هي الأخرى بعطاء المرأة اللامحدود ودورها العظيم في هذه الحياة، إضافة إلى سلمها وسلامها الذي تتمناه لهذا العالم من خلال المساحة اللونية البيضاء الناصعة بين السعفة ورأسها .
عموماً هذا جانب من عطاء إدريس الهوتي الذي جعل من تشكيله فكراً ومن فكره تشكيلاً، فمذ عرفناه وهو يقدم لنا فيضاً بصرياً على قطعه القماشية الملونة بتشكيلات تخيلية وغرائبية يتماهى عبر قصة ألوانها وصورها المجازية وجوه للمرأة وأشياء أخرى على نحو بليغ يكشف قدرة هذا الفنان التحليلية والتركيبية على إدارة المفردات في لوحاته الفنية وفي تركيب نسيجها اللوني بعين الكيميائي الخبير بأسرار المواد الصباغية حتى أصبحت لوحاته في أبهى إشراقاتها وتجلياتها قرينة للجمال المرادفة لقرينة الجلال المتعارف عليه في الاعمال التشكيلية العالمية.

عبدالكريم الميمني
[email protected]