جودة مرسي:
الناس في حبه سكارى .. هاموا على شطه الرهيب.. آآآه على سرك الرهيب وموجه التائه الغريب.. يا نيل يا ساحر الغيوم يا واهب الخلد للزمان، غنى له الشعراء وعلى جانبيه جلس العشاق، وفي راحتيه زرع وحصد الفلاح، ومن قبله بزمان أقيمت على جانبيه الحضارة الفرعونية أعظم الحضارات على مر التاريخ. إنه نهر النيل أحد أنهار الجنة، وقال عنه المؤرخ اليوناني هيرودوت (مصر هبة النيل) وهو شريان الحياة للمصريين، وتصدر همومهم في جلساتهم وندواتهم بعد أن أعلنت مصر مؤخرا عن فشل مفاوضات سد النهضة ما بين الجانب المصري والإثيوبي والسوداني والتي كانت ترغب مصر من خلالها بمد فترة ملء السد إلى عشر سنوات بدلا من أربع كما يريد الجانب الإثيوبي حتى يكون تأثيره على حصة مصر من ماء النيل محدودا. ومشكلة مصر مع إنشاء السدود ليست وليدة اليوم، بل هي منذ زمن بعيد، ونجحت الدبلوماسية المصرية في كل مرة من منع بناء السدود. والآن المشكلة أصبحت أمرا واقعا، وتم بناء السد، وأصبح التهديد فعليا على حصة مصر من مياه النيل. وأذكر بمقال نشر في هذه الزاوية بتاريخ العاشر من أغسطس العام 2017 تحت عنوان (قاعدة الصين الاقتصاعسكرية وصراع المياه الإفريقي) تناول صراع المياه في إفريقيا وأن القوى الكبرى عسكريا واقتصاديا سيطرت على المياه والموانئ الإفريقية ومن ضمنها بالطبع نهر النيل، وأن القسم الذي أقسمه مؤخرا أبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا أمام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لن يتم الاعتراف أو الأخذ به في أي من المواثيق الدولية، فقد كان مجرد إظهار حسن النيات لإضاعة الوقت حتى يتم الانتهاء من بناء السد.
وقد ذكرنا في المقال منذ سنتين تقريبا .. (أن القوة الاقتصادية تحتاج إلى قوة سياسية وعسكرية لتحميها وتذود عن مصالحها. ومن ضمن القارات التي شهدت تطورا اقتصاديا هائلا بفضل الشراكة الاقتصادية مع الصين القارة الإفريقية التي تبلغ استثمارات الصين بها قرابة الـ300 مليار دولار. وتأتي إثيوبيا وجيبوتي في مقدمة تلك الدول، ومنذ وقوع الصين في غرام إثيوبيا اقتصاديا بدأت مشاكل نهر النيل ومعاناة المصريين وخوفهم من انخفاض منسوبه بعد أن تولت الصين بعض الأعمال الإنشائية في سد النهضة وشيدت لإثيوبيا ستة سدود، عن طريق عمالة رخيصة تقدر بحوالي 25 ألف عامل)، ما يعني أن التعاون الصيني وما تبعه من إيجاد قوة عسكرية لحماية استثماراتها في إثيوبيا بافتتاح أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي بالقرن الإفريقي، بالإضافة إلى الحديث عن وجود قواعد للصواريخ الإسرائيلية بسد النهضة لحمايته من أي اعتداء في إطار العلاقات والمصالح بين إثيوبيا وإسرائيل والتي أخذت أبعادا أسرع وأقوى منذ تولى أبي أحمد منصب رئيس الوزراء (الحائز على جائزة نوبل والتي قد يكون لإسرائيل الفضل في الفوز بها)، صاحبها حلم إسرائيلي قديم بتوصيل مياه النيل إلى تل أبيب.
وإذا ابتعدنا عن الخيار العسكري واحتكمنا إلى اتفاق المبادئ الذي وقعه الرؤساء الثلاثة لمصر والسودان وإثيوبيا في العام 2015 فإن الفقرة الختامية منه تنص على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقا لمبدأ حسن النوايا". وقد رفضت إثيوبيا كل المقترحات المقدمة بإشراف استشاريين دوليين على مراحل إنشاء السد الذي إذا تعرض لحالة انهيار سيعرض كلا من مصر والسودان للغرق، ثم تبع ذلك الطلب المصري بتدخل طرف رابع للوساطة في حل الأزمة ووقع الخيار على الولايات المتحدة، وقوبل بالرفض أيضا من الجانب الإثيوبي الذي اعتبر الطلب المصري بزيادة سنوات ملء السد تدخلا في الشأن الإثيوبي.
والنتيجة أن إصرار إثيوبيا على موقفها سيعرض مصر إلى نقص كبير في مياه النيل، وسيؤثر بالطبع على إنتاج الكهرباء بالسد العالي وتعرض الأراضي المصرية للجفاف، لتدخل مصر في مرحلة الفقر المائي، فهل تتجه مصر إلى تدويل القضية وتحويلها إلى مجلس الأمن لإجبار إثيوبيا على القبول بإطالة فترة ملء خزان سد النهضة إلى عشر سنوات، مع الحفاظ على مستوى المياه بسد أسوان عند 165 مترا فوق سطح الأرض، وهذا يتطلب مجهودا دبلوماسيا كبيرا؟ أم يلغي البرلمان المصري أتفاقية التفاهم التي وقع عليها رؤساء مصر وإثيوبيا والسودان، والعودة إلى اتفاقية تقاسم مياه النيل التي أبرمتها الحكومة البريطانية ـ بصفتها الاستعمارية ـ نيابة عن دول حوض النيل في عام 1929 مع الحكومة المصرية والتي تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر من مياه نهر النيل، وحق مصر في الاعتراض على إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده؟ أم ستفاجئنا إثيوبيا بالموافقة على مد فترة بناء السد مقابل الموافقة على بيع المياه لإسرائيل عبر الأراضي المصرية؟ وعندها نقول: آهٍ على سرك الرهيب وموجك التائه الغريب... يا نيل يا ساحر الغيوب.