د. أحمد مصطفى أحمد:
ربما يستحسن كثيرون هذا الموقف العربي شبه الإجماعي المعارض للحرب التركية على سوريا غزوا واحتلالا لما تسميه أنقرة "الشريط الحدودي" في العمق السوري. وكذلك ذلك الموقف الإنشائي للعالم من العدوان التركي على سوريا وإن لم يتجاوز حدود اللفظ إلى أي فعل حقيقي لردع العدوان. لكن الحقيقة أن تركيا ما كانت لتقدم على ما أقدمت عليه إلا بشبه رضا من كافة الأطراف، باستثناء الطرف الوحيد المعني وصاحب المصلحة والذي يتحمل القتل والدمار وهو الشعب السوري (وأغلبه هنا من الأكراد) في تلك المناطق المحتلة. وما يثير السخرية أن تركيا سبق واحتلت مناطق واسعة من شمال غرب سوريا العام الماضي، بل إنها ذهبت إلى ما هو أبعد، وعملت على فصل عفرين عن سوريا، وتقريبا ضمت تلك المناطق عمليا على طريقة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ولم نسمع صوتا وقتها، لا عربيا ولا عالميا، ولا حتى بأضعف الإيمان؛ أي أن يدين باللفظ احتلال تركيا لأجزاء من بلد عربي.
كان احتلال تركيا لعفرين وما حولها من أجزاء من ريف إدلب وحلب تحت دعوى مواجهة الأكراد في سوريا، لأنها مناطق أغلب سكانها من الأكراد فعلا، لكن الهدف التركي الأسمى هو حماية من ترعاهم من جماعات إرهابية تركزت في إدلب بعدما تمكن الجيش السوري من طردهم من كافة المناطق التي كانوا يسيطرون عليها. وأغلب الإرهابيين في إدلب من أتباع القاعدة تحت مسمى جماعات مثل النصرة (التي غيرت اسمها لأسباب إجرائية) وغيرها. أما الآن، وفي شرق الفرات حيث ذات الدعوى بمواجهة الأكراد، فالسيطرة كانت لـ"داعش" وما زال بقايا الإرهابيين هناك، إما في سجون أو مخيمات أو متفرقين بين المدنيين. وكأنما تركيا تستغل الادعاء بمواجهة الكرد خارج حدودها (نفس نظرية الهجوم الاستباقي الاحتلالي = الاستيطاني وانتهاك السيادة الذي تستخدمه دول غربية وغيرها) لتحمي توابعها من الإرهابيين.
ولعله أصبح واضحا الآن أن مسألة "الشريط الحدودي" بعمق عشرات الكيلومترات داخل سوريا وبطول الحدود مع تركيا التي تزيد عن ثمانمئة كيلومتر ليست من أجل تكوين منطقة عازلة مع كرد سوريا أكثر منها منطقة محتلة لإيواء الإرهابيين من "داعش" و"قاعدة" وغيرها مما لا يريد من مولوهم واستخكدوهم أن يؤووهم ولا القضاء عليهم ـ ربما لحاجة مستقبلية لهم فيهم. فالكرد موجودون في تركيا، وليس فقط في جنوب الشرق بديار بكر وغيرها، وإنما في قلب تركيا كما أنهم في العراق أشرس عدائية لتركيا منهم ممن في سوريا. لكن للأسف، هذا هو نصيب الكرد دوما على مر تاريخهم: تحالفات مصلحية تنتهي بخسارتهم وتطلعات قومية تدفعهم لرهانات خاطئة وتضحية بهم من قبل الحلفاء والأعداء على السواء.
وعودة إلى هذا الموقف العربي الجديد، الذي لا يمكن أبدا اعتباره موقفا متغيرا مما يجري في سوريا ـ الا باستثناءات عربية قليلة ـ ولا هو بالمؤيد للكرد والمدافع عما يتعرضون له من قتل على يد الجيش التركي وحلفائه من جماعات إرهابية. إنما هو في أغلبه موقف معاد لتركيا وتدخلاتها في المنطقة وحولها، وله ما يبرره في الأغلب بسبب دعم تركيا لجماعات تثير الاضطراب في دول كثيرة في المنطقة وتشن حملات عنف تودي بالأرواح وتسبب الدمار وتضرب الاستقرار. حتى الحديث عن المخاوف من أن الهجوم التركي سيعيد "داعش" لا يبدو جديا، خصوصا وأنه يتقاطع مع حديث الأميركيين والفرنسيين وغيرهم ممن تجد أسلحتهم لدى داعش (وربما أموالهم في وقت سابق أيضا). وكم كان المرء يتمنى لو أن الموقف العربي لم يكن ضد تركيا (عن حق طبعا) فقط، ولكن دفاعا عن الكرد أيضا.
صحيح أن الكرد غالبا لا يحسنون الاختيار في أوقات الأزمات، لكن ذلك لا يجب أن يقلل من حجم الكوارث الإنسانية التي يتعرضون لها على يد كل الدول التي يتواجدون فيها. وعلى أساس إنساني، يجب تفهم وضعهم ـ ليس بطريقة المظلومية وعقدة الاضطهاد ـ ولكن لأنهم جزء تاريخي من هذه المنطقة ومن مصلحة العرب دوما أن يكون حل "المسألة الكردية" عربيا وليس تركيا أو إيرانيا. وبين الكرد من العقلاء من يرى ذلك، حتى قبل عقود حين كان المد الرئيسي في المنطقة هو القومية العربية لكنها لم تصطدم بعقيدة القومية الكردية لديهم. ويكفي أن نذكر أن أول صحيفة وإذاعة باللغة الكردية في المنطقة صدرت من القاهرة في عز حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رمز المد القومي وعمل فيها وقتها الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني. لكن للأسف الشديد لم يتم البناء على ذلك وزاد الشقاق إلى الدم أحيانا بين العرب والكرد في أكثر من مناسبة على مر العقود الماضية. ولعل تلك كانت فرصة للعرب لاتخاذ موقف من تركيا وفي الوقت نفسه احتواء الكرد الذين يشعرون الآن بمرارة التخلي عنهم من الحليف الأميركي. وربما يكون اتفاق المقاتلين الأكراد مع الجيش السوري بداية لطريق يتطلب دعما عربيا مباشرا، ليس فقط لوقف العدوان التركي ولكن أيضا لاستيعاب الكرد.