”مع التسليم بأن لكل من يشارك في مهرجان "الإضعاف العام" لدول وقوى ومقومات المنطقة أهدافه ومصالحه التي يريد الحفاظ عليها باستغلال ما تحركه العوامل الذاتية لصالحه، لا يصح أن ننتظر ما سيسفر عنه ما يجري في منطقتنا ونغرق في التنظير والتحليل. فمن أبسط قواعد العمل العام والواقعية السياسية أن تسعى للاستفادة من أي تطور ليخدم أهدافك.”
ـــــــــــــــــــــــ
استغرب كثيرا مواقف بعض القوى والتيارات في المنطقة، خاصة بعض القوى اليسارية وما توصف بأنها "تقدمية"، مما يجري حاليًّا ويتعلق بالتطرف الديني والإرهاب والصراعات الطائفية. ورغم التسليم بعدة حقائق، إلا أن مواقف تلك القوى يبدو مناقضا لكل ما يفترض أنها تعتمده وتدعو إليه من "ليبرالية" وإبعاد الدين، وما شابه" عن السياسة والعمل العام (الدنيوي). ربما كان المتوقع هو عكس ذلك تماما، اي أن تكون "داعش" وجماعات الإرهاب المتسربلة بالدين تلك فرصة للدفع بكل مقومات الحداثة والعصرنة، ليس في السياسة فقط بل في سبل الحياة (الدنيوية) الأخرى كذلك. لكن للأسف الشديد أصبحت تلك القوى "المدنية" واحدا من "العصافير" العديدة التي أصابها حجر داعش كما أسلفنا في مقابل سابق. وتكمن المشكلة، على ما أتصور، في أن معظم هذه القوى متأثرة بالسرد الغربي حول ما يجري في منطقتنا عموما، وفيما يتعلق بالإسلام السياسي خصوصا.
وربما يفيد إعادة التركيز على عدة نقاط: أولا، تنظيم داعش، والنصرة وغيره من الجماعات المتطرفة المرتبطة بالقاعدة أو تمارس أعمالا إرهابية أشد منها، هو حقيقة ونتاج لما تشهده منطقتنا ويجد فرص التمويل والتجنيد بسبب تفسيرات بعض "الشيوخ" للدين خاصة عند اقحامه في السياسة. وثانيا، أن كل تلك التنظيمات تعود أصولها إلى الجماعة الرئيسية التي استغلت الدين في العمل العام وفي الصراع السياسي وهي جماعة "الإخوان المسلمين" التي انطلقت من مصر وأصبحت تنظيما دوليا يدور في فلكه جماعات إخوان قطرية وأيضا جماعات مماثلة توصف إجمالا بأنها "تيار الإسلام السياسي". ثالثا، يصر الموقف الغربي الرسمي، مدعوما بمواقف بعض الأطراف الإقليمية (من دول مسلمة كتركيا وقطر وإيران)، على أن الإسلام السياسي تيار معتدل له مكان في الحياة السياسية التعددية لدول المنطقة وأنه يختلف عن الجماعات المتطرفة والإرهابية. بل إن البعض يشترط لنجاح جهود "مكافحة الإرهاب" أن يشرك فيها "المعتدلون" مثل الإخوان ـ وإن كان ذلك صعب الآن خاصة في العراق وسوريا فإنه وارد في ليبيا واليمن وغيرها.
ورغم النيات الحسنة واللغو الإنشائي بوحدة المسلمين، وتكاتفهم أمام مخاطر التشويه والإرهاب التي يتعرض لها دينهم، لا يمكن إنكار أن المنطقة تشهد صراعا طائفيا ـ ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين، بل بين السنة والشيعة من المسلمين. وربما حتى بين فصائل متباينة داخل كل مذهب وطائفة. ولا يمكن الفصل بين كل هذه التعقيدات ـ المرتبطة بالدين في السياسة ـ ومشاكل المنطقة الأخرى منذ بدأت موجات احتجاجات ومحاولات تغيير وحروب داخلية في بعض بلدانها قبل أكثر من ثلاث سنوات. ولا يعني الربط هنا أي أحكام قيمية، أي بالسلب أو الإيجاب، بل مجرد تقرير واقع وتأكيد لأن "الدين في السياسة" هو جذر كل هذه المشاكل. ومن المهم هنا الإشارة إلى ما يقول به قطاع كبير من التيار المدني ـ وهو صحيح ـ بأن الطائفية والعنف المتستر بالدين ليس "مؤامرة استعمارية" تنفذها أجهزة مخابرات القوى الغربية. فلدينا فعلا كل العوامل الذاتية التي تفرخ داعش وغيرها، وتغذي صراعات طائفية وعرقية ظلت مقموعة تحت غطاء نظم شمولية أخذت في الاضمحلال.
مع التسليم بأن لكل من يشارك في مهرجان "الإضعاف العام" لدول وقوى ومقومات المنطقة أهدافه ومصالحه التي يريد الحفاظ عليها باستغلال ما تحركه العوامل الذاتية لصالحه، لا يصح أن ننتظر ما سيسفر عنه ما يجري في منطقتنا ونغرق في التنظير والتحليل. فمن أبسط قواعد العمل العام والواقعية السياسية أن تسعى للاستفادة من أي تطور ليخدم أهدافك. وإذا كان هناك تيار يريد لهذه المنطقة أن تتطور نحو الأفضل، ويسعى لترسيخ مبادئه ودفعها باتجاه أن تصبح "التيار السائد". فإذا كان الغرب ـ وأطراف إقليمية ـ يهمه تعزيز دور الإخوان لأغراض تتعلق بمصالحه، فإن القوى المحلية المدنية ليست بالضرورة مطالبة بتبني ذلك النهج ـ حتى لو تقاطعت مصالحها مع تكتيكات الغرب مرحليا. بل إنها فرصة مواتية للتخلص من كل ما كان هؤلاء اليساريون والمتلبرلون يصفونه دائما بأنه "عوامل التخلف والرجعية" في المنطقة. وبغض النظر عن تقييمك للدين في السياسة، إن كان رجعية أم تقدمية، فإن النظر إلى المثالب التي نجمت عن هذا النهج حتى الآن كفيلة بأن يصف المرء مع إبعاد الدين عن السياسة بأي شكل.
لا فارق هنا بين تشدد واعتدال، ولا تطرف أو سماحة، ولا احتواء أو إقصاء، فكل هذا الاتجاه في النهاية يضر ـ بالمنطقة عموما، وأكثر بالإسلام نفسه كدين وايضا بالتيار المدني الذي نتحدث عنه. إن أمام الجميع الآن فرصة قد لا تتكرر للخروج من تلك الدوائر المتشابكة والتي استمرت تتفاعل على مدى عقود ـ منذ ما قبل حركة التحرر الوطني والقضاء على الاستعمار ـ وانتهت بنا إلى ما نحن عليه الآن في أغلب بلدان المنطقة. بل ربما يكون السعي لاستغلال هذه الفرصة بتأصيل فصل الدين عن السياسة مخرجا لتفادي الدول التي لم تشهد احتجاجات وهزات لمصير الدول الفاشلة الذي ينتظر بعض البلدان التي أدى الحراك فيها إلى صعود الإسلام السياسي.

د.أيمن مصطفى* كاتب صحفي عربي