لا تزال هموم كوكب الأرض وما يعتريه من تغيرات جيولوجية ومناخية تضغط على سكان العالم جميعهم، سواء بما يعرف بظاهرة الاحتباس الحراري أو الفيضانات أو الجفاف وندرة الأمطار، أو تلوث المياه، وعدم حصول السواد الأعظم في هذا الكوكب على نصيبهم الكافي من المياه النظيفة، لكن رغم الشعور بوطأة عواقب تلك التغيرات إلا أن درجة استجابة بلدان العالم لدعوة الاهتمام بمعالجة السلبيات والممارسات الضارة والمسيئة إلى كوكب الأرض تبدو متفاوتة بل وتتضاءل عن مستوى الطموحات.
ويعد شح المياه وترشيد استخدامها وكذلك تلوثها رغم توافرها من المشكلات التي لا تزال تمثل تحديًا كبيرًا ليس لحكومات الدول وحدها، وإنما للحكومات والشعوب معًا. فالمياه تظل دائمًا وأبدًا حاجة أساسية للحياة لا يمكن الاستغناء عنها، سواء للاستهلاك البشري أو لتربية الماشية أو للزراعة، وتزداد هذه الحاجة أهمية مع تصاعد درجات الحرارة وارتفاع معدلات التصحر، وهما الظاهرتان اللتان تؤديان إلى انخفاض معدلات المياه الجوفية.
ولم تغفل السلطنة منذ بداية نهضتها المباركة الاهتمام بموارد المياه لأهميتها الكبرى وتعلق الحياة بها كما أخبرنا بذلك الخالق سبحانه وتعالى في قوله "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، ولاعتماد العمانيين عليها في مصدر عيشهم ألا وهو الزراعة، حيث تشهد لهم الأفلاج التي شقوها وفق إبداع هندسي مبهر، على ارتباطهم الأزلي بالأرض والماء. وانطلاقًا من حرص حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ على المحافظة على موارد المياه واستغلالها الاستغلال الأمثل وتجنب مظاهر الهدر، وبفضل توجيهات جلالته السديدة تبنت الحكومة خططًا واضحة تعنى بالمياه الجوفية وفي مقدمتها الأفلاج التي تلعب دورًا كبيرًا في الإنتاج الزراعي، بل ترتكز عليها الحياة الزراعية وحياة المواطنين، وذلك بصيانتها وإعادة شق قنواتها جراء الانهيارات التي تعرضت وتتعرض لها. كما لجأت إلى تحلية مياه البحر لمواجهة الشح الحاصل في المياه وإيصال مياه الشرب إلى المحافظات وولايات السلطنة ومواكبة التوسع العمراني والازدياد السكاني، وإنشاء السدود المائية، ولتقليل الهدر والحد من الاستنزاف وترشيد الاستخدام للمياه حرصت الحكومة على الاستفادة من مياه الصرف الصحي بعد معالجتها في مجال الري.
وما من شك أن هذه الجهود حول تأمين موارد المياه والمحافظة عليها ليست حالة استثنائية وخاصة بالسلطنة وحدها وإنما تتصدر أولويات حكومات دول العالم بما فيها حكومات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي انتبهت مبكرًا لهذا المورد الحيوي وعنت به أشد عناية، لما تتميز به من موقع جغرافي شبه جاف، ما يتطلب إدارة المياه وحسن استثمارها والتخطيط المستدام لموارد المياه التقليدية والإدارة الفاعلة للأمطار، ورسم استراتيجيات في تحسين كفاءتها ومعالجتها وإعادة استخدامها في المناطق الجافة وتقنيات المعالجة الحديثة واسترجاع الطاقة، وإعادة استخدام المياه الرمادية والتشريعات البيئية لإعادة استخدام المياه المعالجة والآثار البيئية المترتبة عليها وتقييم وإدارة مخاطرها. هذه الاهتمامات وغيرها محل بحث ونقاش ودراسة تتناولها (58) ورقة عمل بحثية وعلمية يقدمها خبراء ومختصون من داخل السلطنة وخارجها في أعمال مؤتمر الخليج الحادي عشر للمياه الذي انطلقت أعماله أمس بفندق قصر البستان تحت شعار "نحو إدارة فاعلة" ويهدف إلى رفع مستوى الوعي بالسياسات والقرارات المائية وإدراك أهمية تحسين كفاءة المياه للمساهمة في تحقيق الإدارة المستدامة للمياه في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتحديد التحديات التي تواجه تحسين كفاءة المياه في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والسياسية السائدة بدول مجلس التعاون، حيث أشارت كلمات افتتاح المؤتمر إلى أن كفاءة المياه في كل من جانبي العرض والطلب تعد منخفضة جدًّا، وأن نسبة التسرب المادي في شبكات المياه البلدية في جانب العرض تتراوح بين 30% وأكثر من 40% خلاف التكلفة العالية التي تتكبدها دول المجلس في إنتاج وتوزيع هذه المياه عالية الجودة بين 1-2 دولار أميركي للمتر المكعب، فضلًا عن أن معدلات تدوير المياه في دول المجلس لا تكاد تذكر، في حين أن المياه العادمة التي يتم تجميعها لا تتجاوز في المتوسط 40% من كميات المياه البديلة الإجمالية ومعدل إعادة استخدام المياه المعالجة لا يتجاوز 60%، إلى جانب ارتفاع نسبة الاستهلاك الفردي أو الزراعي.
ولا ريب أن كل ذلك يعد تحديًا يتطلب تضافر جهود الجميع، وحري بنا كمواطنين خليجيين مسؤولين عن نمو بلداننا وتحسين مستوى اقتصاداتنا وتنويع مصادرها، أن نكون على ذات المستوى من الشعور بالمسؤولية في ترشيد استهلاك المياه وتعميق مفاهيم قيمة المياه في حياتنا وحياة أطفالنا.