[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
في ظل احتدام معارك الأضداد في المنطقة تبدو أجزاء صورة المشهد العام بالنسبة للكثير من المتابعين مبعثرة، وربما يعود ذلك إلى اصطدام مشروعين تمثلهما حركتان خرجتا إلى العلن في فترة الاستعمار القديم، ونجاح بعض هذه الأضداد في تسويق نفسه على أنه المدافع الأوحد عن شعوب المنطقة، وأنه بتدخلاته في الشؤون الداخلية للآخرين إنما يسعى إلى حماية هذا المكون من ناحية واستقرار المنطقة وأمنها من ناحية أخرى، قافزًا على أدواره المشبوهة وحماقاته في بعثرة دول المنطقة وتمزيق أواصر شعوبها آصرة آصرة بأفكاره المسمومة ومغامراته غير المحسوبة، محاولًا التلطي وراء ذلك لإخفاء دوره الوظيفي.
لقد أعادت الفصول الأخيرة لأحداث مؤامرة ما سمي بـ "الربيع العربي" تركيب أجزاء الصورة لتبدو على حقيقتها ظاهرة لا تقبل أي تشكيك على عكس ما كانت عليه في بداية الأحداث بالنسبة للكثير من الذين جرفهم سونامي أوهام "الثورة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والدولة المدنية"، حيث أفرزت الصورة بوضوحها وألوانها مكونات ثلاثة هي: سماسرة وتجار حروب، ووظيفيون (ممولون وإرهابيون)، وضحايا ومدافعون.
ولذلك لم يعد ممكنًا الارتهان إلى الأسئلة والاستفسارات وإجاباتها، واستجداء علامات الاستفهام لتبوح بأسرار المشهد الحاصل، فالوقائع لم تترك وراءها تساؤلات واستفهامات، وإنما تقدم حقائق واضحة وعميقة من خلال مطالب السماسرة وتجار الحروب، وعمليات التنفيذ من قبل المكلفين بالأدوار والمهام الوظيفية، وبالتالي ليست مقبولة السذاجة والتوهم بأن التحالف الدولي الذي تشكلت نواته في اجتماع حلف شمال الأطلسي في ويلز بالمملكة المتحدة هو من أجل اجتثاث الإرهاب وتخليص المنطقة من سمومه وأورامه الخبيثة؛ إذ لا يعقل أن يتخلص التاجر والسمسار من خدمه المخلصين الذين يتولون توزيع بضاعته المأفونة في جهات المنطقة الأربع ويجني له الأرباح، خاصة وأن هناك من هو مسؤول عن صرف تكاليف عمليات التوزيع وأتعاب الموزعين. ما يعني أن الرابحين في هذه العملية كلها تجار الحروب والسماسرة وحدهم.
ولعل الأحداث الجارية في مدينة عين العرب السورية تكشف بجلاء مدى الارتباط بين تجار الحروب والسماسرة وبين أصحاب الأدوار الوظيفية من خلال:
أولًا: إعلان الجيش الأميركي أن مقاتلاته دمرت إمدادات من الأسلحة والأغذية والأدوية كانت قد ألقتها للمقاتلين الأكراد في عين العرب السورية بحجة خشية سقوطها بيد "داعش"، في الوقت الذي يؤكد فيه الأكراد أن تلك الإمدادات شحيحة لا ترتقي إلى أوار المعركة وحسمها. وهذا يشي بأن إمداد واشنطن للمقاتلين الأكراد بأسلحة وأغذية وأدوية ليس بهدف مساعدتهم في القضاء على "داعش"، وإنما لإطالة أمد المعركة للبناء عليها الخطط المرحلية، علمًا أن "داعش" أيضًا يتلقى الدعم والتمويل اللازمين لمعركته في عين العرب وغيرها من المدن السورية والعراقية. ووسط تأكيدات أن قوات الدفاع الكردية عن "عين العرب" استطاعت أن تسيطر على مساحة واسعة من المدينة تصل نسبتها بين ستين إلى ثمانين بالمئة، كان بإمكان الطائرات المحملة بالإمدادات إلقاؤها في الأجزاء الخاضعة تحت السيطرة الكردية بعيدًا عن أيدي "داعش".
ثانيًا: إن الإمدادات التي نقلتها الطائرات الأميركية مقدمة من إقليم كردستان العراق لمساعدة الأكراد في عين العرب وليس من الولايات المتحدة، رغم معارضة أنقرة هذا الأمر ورفضها أن تعبر الإمدادات عبر أراضيها أو مجالها الجوي، في حين أكد جون كيري وزير الخارجية الأميركي أنه تحدث مع السلطات التركية وتحدث الرئيس باراك أوباما مع نظيره التركي مؤكدَيْنِ أن هذا ليس تحولًا في سياسة الولايات المتحدة. إنها لحظة "كارثية وطارئة"، وأن ذلك كان "إجراء لحظيًّا". وواضح أن هذا الإجراء "اللحظي" يعزز ما ذكرته في (أولًا) من حيث إنه لذر الرماد في عيون أكراد إقليم كردستان وعدم إغضابهم بحكم المصالح النفطية الأميركية والأهداف الجيوسياسية والاستراتيجية التي يعول الأميركيون على الأكراد في لعب دور لتحقيقها. وفي هذا الإطار يأتي الغزل الأميركي بإلقاء الإمدادات للمقاتلين الأكراد ودعوة تركيا للسماح بدخول البشمرجة إلى عين العرب سعيًا من واشنطن لاتخاذ أكراد سوريا ورقة ضد دمشق، مستفيدة من تجربتها السابقة في العراق بتوظيفها ورقة أكراد كردستان ضد الرئيس الراحل صدام حسين وابتزازه بحصولهم على الحكم الذاتي وإعلان الإقليم منطقة حظر جوي، بالإضافة إلى رغبتها في ترويض تركيا ـ أردوغان وابتزازها للقبول بالإملاءات الأميركية، وإن كان التبرير الكيري "اللحظي" أيضًا لعدم إغضاب أنقرة بإيصال جزء من الإمدادات إلى المقاتلين الأكراد، وترويضها بتدمير الجزء الآخر حسب الحجة المذكورة آنفًا. وهنا لا بد من إعادة التذكير بما قاله سابقًا كيري بأن بلاده وتحالفها لا يملكان استراتيجية منع سقوط المدن، فهما لا يزالان يبحثان عن الهدف الاستراتيجي. ويبدو أن هذا الهدف أو جزء منه هو مساومة أكراد سوريا بدعمهم وإخراج داعش من مدينة عين العرب مقابل إعلان معاداتهم للوطن السوري، على غرار ما فعل أكراد العراق أثناء حكم صدام حسين. واضح أن التشابك بين الدور الوظيفي وتحقيق المصالح هو ما يحتم على الأميركي الموازنة في العلاقة بين الأطراف القائمة بالأدوار الوظيفية، فضلًا عن المحافظة على العلاقة بين تركيا ـ أردوغان و"داعش" وعدم توتيرها. ومن تابع ردات الفعل التركية، سواء حول إمدادات الأسلحة ونفي استخدام الأراضي والأجواء التركية لإيصالها إلى المقاتلين الأكراد، أو الخنوع للطلب الأميركي بالسماح لقوات البشمرجة الكردية بعبور الحدود التركية إلى مدينة العرب لمساعدة إخوانهم هناك، يدرك حجم المأزق الذي أوقعت حكومة العدالة والتنمية الدولة التركية فيه، فهي تحاول أن تحافظ على شعرة معاوية بعدم الإخلال بعلاقتها مع كردستان العراق لحاجتها لهذا الإقليم في مناكفة حكومة المركز العراقية وابتزازها، وعدم توتير العلاقة بين الحكومة التركية و"داعش" من ناحية، وبين الحكومة وحزب العمال الكردستاني خشية تفجير الأوضاع داخل تركيا بعمليات إرهابية واغتيالات ضد مسؤولين نافذين ومؤسسات تركية حيوية، في الوقت الذي تتحين فيه الفرص لإكمال مشروع تدمير سوريا بالتعاون مع الأطراف الأصيلة في المؤامرة التي تستهدف سوريا خصوصًا والمنطقة عمومًا.
وفي تقديري، مهما يكن من أمر، فإن حكومة العدالة والتنمية بسياساتها وتدخلاتها وتمويلها الإرهاب ورعايتها الجماعات الإرهابية التكفيرية، قد أحالت تركيا عاجلًا أو آجلًا إلى باكستان جديدة كنتيجة طبيعية لسياسات ترفض العقل ومنطق الأشياء والاحتكام إلى شريعة جغرافيا الجوار.