د. أحمد مصطفى أحمد:
تحول اهتمام العالم في العقدين الأخيرين إلى قارة إفريقيا لأسباب عديدة، لكن ذلك الاهتمام أخذ منحى جديدا في السنوات القليلة الأخيرة مع تشبع البؤر الصاعدة عالميا، خصوصا اقتصاديا، كالصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها. ورغم أن مجموعة الأربعة الأساسية للاقتصادات الصاعدة، والتي عرفت باسم بريكس، كانت تضم جنوب إفريقيا إلا أن تلك الدولة الواقعة عند طرف مثلث القارة الجنوبي لم تكن ممثلة تماما للقارة باعتبارها "ديموقراطية ناشئة عقب عقود من الفصل العنصري والاحتلال الأوروبي". كما أن اقتصادها ما زال إلى حد كبير بيد البيض والآسيويين في حواضرها الرئيسية. وبالتالي لم تبرز أهمية إفريقيا في هذا السياق، كما أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية.
والحقيقة أن أول اهتمام بإفريقيا كان من إحدى دول بريكس، وهي الصين التي بدأت الاستثمار في إفريقيا مبكرا وتعرضت لانتقادات شديدة من جانب الغرب. وسعى الإعلام الغربي لتصوير "تهافت" الصين على إفريقيا بأنه بغرض استغلال ثرواتها الطبيعية بالتعاون مع الحكومات غير الديموقراطية في القارة السمراء. إلا أن الدول الإفريقية لم تعبأ بتلك الحملة، خصوصا وأن الصينيين لا يتدخلون في الشؤون الداخلية للدول التي يقيمون معها علاقات اقتصادية. صحيح أن الاقتصاد الصيني السريع النمو في العقود الثلاثة الأخيرة بحاجة للمواد الخام التي تزخر بها أراضي إفريقيا، لكنه أيضا لا يحصل على ذلك بدون مقابل. كما توسعت الشركات الصينية في مشروعات البنية التحتية في دول إفريقية تحتاجها بشدة، دون أن تثير كل القضايا الخلافية التي يثيرها الغربيون. من هنا كان دخولها إفريقيا، ولا يزال، محل ترحيب من الأفارقة الذين لم ينسوا للقوى الغربية استعمارها القريب لدول القارة ونهب ثرواتها بما فيها البشر الذين نقلوا عبيدا قبل قرون إلى أميركا والدول الجديدة غيرها.
لكن هذا الاهتمام لم يعد قاصرا على الصين، وبدأت دول عدة من قارات مختلفة تستهدف إفريقيا بالاستثمار والشراكة الاقتصادية مستفيدة من غنى القارة بالثروات الطبيعية التي تحتاجها صناعات متقدمة وخصوبة أراضيها للاستثمار الزراعي وتصنيع المنتجات الغذائية. ولفت ذلك انتباه دول الغرب المتقدمة التي أعلنت مرارا في السنوات الأخيرة عن مبادرات للاستثمار في إفريقيا، لكنها في الأغلب لم تتجاوز دخول بعض رجال الأعمال الغربيين في مشروعات في القارة أكثرها ذات طبيعة عائد سريع. ذلك بالطبع باستثناء النفط والغاز في دول القارة الغنية بمصادر الطاقة، والتي تعمل فيها شركات الطاقة الكبرى وأغلبها أميركية وأوروبية. ويبقى من المنطقي الاهتمام بإفريقيا باعتبارها القارة الوحيدة التي ما زالت "بكرا" من الناحية الاقتصادية، في وقت وصل فيه اقتصاد الدول المتقدمة في أوروبا وأميركا الشمالية إلى حده الأقصى تقريبا. كما أن القارة تمثل سوقا واعدة لم تتشبع بعد بأنماط الاستهلاك التي أتخمت العالم خارجها. أي أن الاقتصاد العالمي ببساطة يجد "طاقة استيعاب" إضافية في القارة الإفريقية تميزها عن غيرها في الكرة الأرضية.
أما الأخطر فهو الاهتمام "الإرهابي" بإفريقيا، خصوصا في السنوات القليلة الأخيرة وتحديدا بعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي في إيران وسوريا قبل أكثر من عامين. ومنذ ذلك الحين تصاعدت العمليات الإرهابية في إفريقيا، من منطقة الساحل والصحراء إلى منطقة القرن الإفريقي والأهم في ليبيا في شمال إفريقيا والتي أصبحت مساحات واسعة منها (خصوصا في الجنوب الشرقي والغربي) "أرضا بلا صاحب". وفي الأسابيع الأخيرة قتل 13 عسكريا فرنسيا في تحطم مروحيتين في مالي وقبلها قتل أكثر من 50 من القوات المالية في هجوم تبنته داعش. كذلك تتكرر اعتداءات عناصر من داعش والقاعدة في بروكينا فاسو، وتبدو الجماعات الإرهابية وكأنها فرضت سطوتها على إقليم غني بالذهب في شمال غرب بوركينا فاسو.
تلك الجماعات الإرهابية المحلية، من عناصر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب التي يمتد نشاطها من المغرب وموريتانيا إلى ليبيا مرورا بمالي والجزائر وتشاد والنيجر إلى جماعات موالية لـ"داعش" مثل بوكو حرام في نيجيريا وغيرها في ليبيا، يضاف إليها تنظيمات إرهابية أخرى مثل تنظيم الشباب في الصومال وتنظيمات أخرى في جيبوتي وكينيا أصبحت على وشك تنسيق عملها الإرهابي. يأتي ذلك في سياق اهتمام من القوى الخارجية الراعية للإرهاب التي تدعم وتمول وتسلح تلك الجماعات، وتعد ليبيا منفذا مهما لكل هذا الدعم بما في ذلك جعلها منطقة "ترانزيت" لنقل آلاف الإرهابيين من تركيا ومن سوريا والعراق عبرها إلى ليبيا لينضموا لتلك الجماعات في إفريقيا. هذا الضخ الاستثماري الإرهابي، من بشر وسلاح وأموال، يؤشر على مواكبة إرهابية للاهتمام الاقتصادي والسياسي بإفريقيا. هذا على الرغم من أن إفريقيا لا يمكن اعتبارها قارة بكرا فيما يتعلق الإرهاب، إضافة إلى تأصل العنف المسلح في كثير من دول القارة منذ عقود. لكنها الآن تحاول انتهاج سبيل جديد يتجاوز الانقلابات العسكرية والنزاعات المسلحة القبلية والعرقية نحو نظم سياسية وتسويات سلمية لصراعاتها التقليدية وربط التنمية المستدامة بقواعد حوكمة سليمة. وهنا يأتي دور الاهتمام الإرهابي بالقارة السمراء مضادا لكل هذا التطور الإيجابي المتوقع. والأمر في النهاية بيد الأفارقة لمكافحة آفة الإرهاب، خصوصا الخارجي القادم إليهم، وتحسين شروط الاستثمار والاتفاقات الاقتصادية مع المهتمين بالقارة الإفريقية.