من السمات الجديرة بالانتباه في التجربة الراهنة للفنانة "فخرية اليحيائية"، ما يظهر فيها بوضوحٍ مِن اشتراك كافة الأعمال في ملامِحَ بعَينِها؛ يأتي في مقدمتها، بالإضافة لتطابُق المساحات، كونها تتخذُ من المُرَبّع – وهو من أهم الأشكال الراسخة في صميم الفنون الإسلامية – فضاءً أساسياً لاستضافة الحلول التصميمية لكافة الأعمال. ولا يخفَى ما في ذلك مِن تَحَدٍّ كبير؛ إذ أن المُرَبّع من أصعب المساحات في المعالجة التصميمية، بسبب صرامَته المُتَحَصّلة مِن تساوي قياسات أضلاعِه. فهو فضاءٌ مُغلَقٌ مُستَقِر، تصعُب زحزحتُه ويصعُب (تحريكُه) بالمفهوم البصري.
غير أننا نرى الفنانة وقد نجحت في هذا الاختبار الصعب، مُثبِتَتةً لياقتها كمُصَمّمة مُحَنّكة، ومُصَوّرة تعي خبايا تكويناتها وتجيد إضفاء الحيوية وبَثّ النبض الإيقاعي في تضاعيف هذه التكوينات. وقد تمكنت "فخرية" من ذلك بوسائل بصرية رشيقة، وَظَّفَت من خلالها المساحة مع الخط، لتتحَصّل على تَنَوُّعٍ في التكوينات والذبذبات الحركية، لتلك المِزَق اللونية الصغيرة، التي تبحثُ لنفسها عن مَرافئ آمنةً في طوايا هذا البراح الأبيض الصلد.
في هذا السياق يمكننا أن نستوعب مدى أهمية تلك الخطوط الصفراء الرهيفة، التي تُوالي شَقّ المُسَطّحات التصويرية للمجموعة، وكأنها أَورِدةٌ تتشَبَّثُ ببقايا حياةٍ، تُقاتِل مَواتَ الصقيع الثلجي، لِتُواصِلَ بَثّ نَسغ الروح في تلك الكائنات اللونية المُشَرذَمة في البراح. لقد عملت تلك الخطوط على تَوكيد التوازُن في عموم مُسطّحات الأعمال، من خلال امتدادها، طولياً وعرضياً وقُطريّاً، مُؤَدّيةً دور صِلة الوَصل بين الشكل والفراغ، وباعِثَةُ الإيهام بِنَبض الحركة المُستَرسلة في مَسارب هذا الفضاء الأبيض المُحايد.
على هذا النحو، أمكَن للأشكال أن يتنوع إيقاعُها الحركي، وأن يتبَدَّل حضورُها المَوضعي، مِن مُسَطَّحٍ لآخر؛ فَمِن أشكالٍ عالقة في مركز التكوين، إلى أخرى غاطسة في قاعه، إلى ثالثة مُحَلّقة في أُفقِه، ومِن كُتَلٍ مُدَلّاة، إلى شرائح مُنبَسِطة أفقياً، إلى ثالثةٍ تشُقّ فضاء الأبيض، لِتَعاوِد الانسحاب إلى داخله، ومِن كياناتٍ لونيةٍ تقف وحيدةً، كالأمشاج والنُطَف المَوصولة بأرحامها بحبال سُرّيّة خَطّيّة، إلى أزواجٍ من المُفردات المُنخَرِطة في حواراتٍ حركيةٍ وكُتَلِيّة.
ومن خلال هذا التنويع الحُر على مفرداتٍ مُتماثلة، تتشارَكُها كل الأعمال، تمكنت "فخرية" من تحقيق مبدأ "الوِحدة في التنوُّع"Unity in diversity، ذلك المبدأُ الذي يكون العملُ الفنيُّ بمقتضاهُ مُستَوفياً مقومات شخصيته المستقلة، في الوقتِ ذاتِه الذي يرتبطُ فيه ارتباطاً وثيقاً بسياقاتِه ومرجعياتِه، وكذا بغيرِه من الأعمال التي تُماثِله مَظهراً، وتُشارِكه في طبيعة البِنية والمُفردات.وقد كان هذا المبدأ التكامُليّ الدقيق من أهم المبادئ التي كَفَلَت للفنون الإسلامية تَنَوُّعها المُدهش؛ من خلال اتّساقُ الجزءِ مع الكُلّ، وتناغُمُ المُفرَدة مع سياقِها العام.
غير أننا، وبمزيدٍ من إعمال التأمُّل في مفردات التجربة، سرعان ما نتبيّن كذلك في علاقات هذه الأمشاج اللونية، الواقعة في طوايا البراح الأبيض، تفعيلاً نَشِطاً لمبادئ بصرية وإدراكية أساسية وأَوَّلِيّة، مِن أهمها مبادئ: "الإغلاق" Closure و"التقارُب" Proximity و"التشابُه" Similarity و"البساطة" Simplicity، فضلاً عن مبدأ "الخبرة المُسبَقة" Past Experience– ذاك الذي يربط بين تلك المفردات البصرية وبين ما سبق أن أشرنا إليه مِن مرجعيتها المُمَثَّلة في مشاهدات الفنانة في مُقتَبَل حياتها – أي أننا ببساطة نستكشف مع "فخرية"، من خلال تلك الأعمال، تلك المبادئ الرئيسة، التي تهيمن على كيفيات تنظيم الإدراك البشري لدقائق المعلومات في كُلياتٍ ذاتِ معنى؛ وفقاً لما تقول به نظرية "الجشطلت" Gestalt theory.
هكذا تمنحنا "فخرية اليحيائي" مثالاً قياسياً لـ"نموذج التشفير / فك التشفير" الاتصاليThe encoding/ decoding model of communication؛ وذلك حين تُحيل خبرتها البصرية الواقعية – النساء بملابسهن الملونة المزركشة – إلى علامات بصرية مُشَفَّرة، تستَمِد طاقتها من توترات الصراع مع الفراغ المحيط، لِتَمنَح المُتَلَقّي، مِن ثَم، قابلية التحليل والتفكيك، وإمكانية الوصول إلى فَك التشفير، للعودة بمُكَوّنات التجربة إلى أصولها وتشريح سياقاتها، وهو ما يطبع التواصُل مع هذه التجربة بطابعٍ مِن الحيوية الخلّاقة.
وبرغم هذا الحضور الطاغي للأبيض في التجربة الراهنة للفنانة، بالتوازي مع تأكيد الهيمنة الهندسية للمربع كإطار حاكم للفراغ، فإن مُقاربة "فخرية" للفكرة، على مستوى المعالجة والمفهوم، تختلف كثيراً عن سَلَفٍ تاريخيّ شهير، ربما كان أشهر البادئين بطرق هذا السبيل في عموم سياقِه، وهو المُعَلّم الروسي الطليعي "كازيمير ماليفيتش" Kazimir Malevich (1879 – 1935)، حين دَشَّن في عام 1918، نموذّجّه الأشهر "أبيض على أبيض" White on White، الذي عُدَّ أيقونةً دالّةً على نَهج "التَفَوُّقِيّة" (السوبريماتية) Suprematism.
وسببُ الاختلاف بين التجربتين هنا، يكمُن فيما سبق وأن عرضناه بشأن المرجعية الواقعية للفنانة، وسعيها لتَشفير هذا الواقع، وتحويله مِن ذاكرةٍ تقاوم المَحو إلى أكوادٍ Codes بصريّةٍ مُشَفّرة، تُبدي مُقاومةً شرسة ضد اجتياح الأبيض الكاسح لها. ويختلف ذلك، جملةً وتفصيلاً، عن الأساس الفلسفي الذي أسّس "ماليفيتش" تجربته عليه، والقائم على فكرة تَبَنّي الجوهري مِن الأشكال الهندسية والحدالأدنى من الألوان المحايدة أو الصريحة، وفي مقدمتها الأبيض والأسود.وكما صَرَّح "ماليفيتش" نفسه، فقد كانت هذه المقارَبة السوبريماتِيّة ذاتها، طريقة لكي يُعلن من خلالها أن الظواهر البصرية للعالم الموضوعي – في حد ذاتها – (لا معنى لها)، وأن الأمر الجوهري هو الشعور الخالص، بصرف النظر عن السياق البيئي الذي يُحيلُ إليه.
والمتأمل الفاحص لأعمال تجربة "فخرية اليحيائي" الحالية، يتبَيَّنُ، حين يُدَقِّقُ جيداً، أن الأبيض – برغم هَيمَنَتِه – لا يتَقَولَبُ في درجةٍ واحدة، بل يتنوعُ في درجات متمايزة، مُتَّخذاً هيئاتٍ وهُويّاتٍ عدة. فالحقيقة أن هناك (أكثر مِن أبيَضٍ)في هذه الأعمال. لقد تمكنت الفنانة أن تصل إلى هذا التنويع في (هُوِيّات) الأبيض بوسائل أدائيّةٍ بسيطة، غير أنها فعالة للغاية؛ فبلمساتٍ قليلةٍ، نراها وقد أضافت درجة مِن اصفرارٍ هامس إلى بعض فراغات المسطح الأبيض، أو نَوَّعَت في سُمك طبقات العجينة اللونية، أو أضفَت على مساحاتها أبعاداً مَلمَسيّة مُتمايزة.
قد تدعونا هذه المعالجات الأدائية، التي تَبَنَّتها "فخرية" للسطح الأبيض، بالتنويعات المذكورة في الفقرة السابقة، إلى أن نستدعي تجربةًلرائد "الفن الجماهيري" Pop art الأمريكي الشهير "روبرت روشنبرج" Robert Rauschenberg (1925-2008)، حين دَشَّن معالجات شبيهة للسطح الأبيض– وإن يَكُن وَفقَ مداخلٍفكريةٍمُغايِرةٍتماماً - من خلال مجموعته التصويريةالمسماة "اللوحات البيضاء"، التي رسمها خلال عامَي 1951و1952، وعرضها في أكتوبر من عام 1953.
لكننا سرعان ما نتبيّن الفارق الجذري بين التجربتين؛ حين نعلم أن هدف "روشنبرج" من هذه المعالجة كان تدشين نموذج بصري، يجسد مفهوم تقليص هوية اللوحة التصويرية إلى طبيعتها الجوهرية، تَوَخّياً للوصول إلى تجربة بصرية (نقية)، كما لو أن اللوحة وُجِدَت في العالم دون فِعلٍ قَصدِيٍّ لِيَدٍ بشرية، كاملةً تماماً، و(بريئة) تماماً. لذلك لم يكن من المُستَغرَب أن عُدَّت تجربة "روشنبرج" تلك سَلَفاً شرعياً لكثرة من أعمال اتجاهَي "فن الحد الأدنى" Minimalism، و"المفاهيمية" Conceptualism، بل وتمهيداً لظهور "الواقعية الجديدة"، التي تَزَعّمها "إيف كلاين" نفسه.
بَقِيَ أن ننتبه إلى أمرٍ جوهريّ، لا يكتمل فهم تجربة الفنانة دون إدراكه، وهو أن "فخرية اليحيائي"، من خلال استحضارها المباشر للفراغ في صميم تجربتها، واعتمادها عليه بِوَصفِه سياقاً حاضناً لكافة العلاقات البصرية، قد تجاوزَت مفهوماً طالما ظل لصيقاً بأعمال فناني الشرق، وبخاصةٍ المُنتَمين منهم للثقافة الإسلامية، ألا وهو مفهوم "الخوف من الفراغ" Horror vacui.
لقد ظل هذا المفهوم شبحاً يطارد فناني الشرق، وبخاصةٍ القدامى منهم، وزادت وطأتُه حين تحول إلى نظريةٍ قال بها عددٌ من الباحثين في الجماليات، الذين تناولوا الفنون الإسلامية بالدراسة من منظور استشراقي؛ وحاولوا من خلالها اقتراحَ مبدأٍ، رأوا أنه يفسر ظواهر الاسترسال والتوالُد واللانهائية، التي تَشيع في أنماط الزخارف الإسلامية وتُميزها، فقالوا بأن الفنون الإسلامية تعبر عن جماليات (الخوف من الفراغ )، من حيث إن الفنان المسلم يعمَد إلى سد كل فراغات المسطحات التي يعمل عليها، رسمًا أو كتابة أو زخرفة أو رقشًا، متحاشيًا الإبقاء على أية مساحة عارية من التَوْشِيَة والرسم، بدافع الخوف من التيه في فضاء غير مُتمايِز الأركان.وكان من أهم القائلين بهذه الفرضية، المؤرخ الفني والمُنَظِّر الجمالي "ألكسندر بابادوبولو" A. Papadopoulo الذي استفاض في شرحها في كتابه "الإسلام والفن الإسلامي" L’Islam et I’art musulman ناعتاً الفراغ بوصفه (مجال الراحة والهدوء).
لقد أثبتت "فخرية اليحيائي" مدى إسراف هذه النظرية في التعميم – إن لم يكن المبالغة –فبصرف النظر عن أنها نظرية لا تثبُت أمام حقائق تاريخ الفن الإسلامي ذاته، فربما لم يتصور القائلون بها أن ثمّة سليلةٍ من أحفاد الفنان المُسلم، ستؤسّس بعض تجاربها البصرية المعاصِرة على استحضار هذا الفراغ ذاتِه، ومُحاوَرَتِه إلى الحد الذي يكتسب معه حضوراً بصرياً فعّالاً.
هكذا إذَن يَحِقُّ لـ"فخرية اليحيائي" أن نختَتِم حديثنا عن تجربتها بتأكيد ما سبق وأن افتتحنا به سياق القول، بعد أن أثبتت لنا عملياً أن "في الفراغ تكمُن القُوَى الزاخرة".

د. ياسر منجي
ناقد ومؤرخ فني مصري