قراءة في ندوة :"الفقه الاسلامي .. المشترك الانساني والمصالح "

ـ إطلاق المصالح ليس خاصا بأهل ديانة دون أخرى، انطلاقاً من القرآن الذي يتوجه إلى الناس جميعا

ـ من الضروري أن نميّز في خطاب الشريعة الإسلامية بين خطاب التكليف وخطاب التعريف

ـ الرسول (عليه الصلاة والسلام) فضلا عن كونه نبياً رسولاً، كان إماماً قائداً، وقاضياً حاكماً، فينبغي التمييز بين تصرفاته على اعتبار تعدد صفاته

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجــلالة السلطان قـابـوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أقيمت خلال الفترة من 6 الى 9 جمادى الثانية 1435هـ الموافق 6 الى 9 ابريل 2014م ندوة تطور العلوم الفقهية والتي جاءت بعنوان:"الفقه الاسلامي .. المشترك الانساني والمصالح" وهي النسخة الثالثة عشرة من الندوات التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في هذا الجانب المهم .. حيث شارك في الندوة علماء ومفكرون وباحثون من داخل السلطنة وخارجها .. وتناولت اوراق عمل وبحوثا هامة.

وضمن تلك البحوث والاوراق المقدمة .. ورقة عمل بعنوان: "السياسة الشرعية وفقه المشترك الإنساني" للدكتور إدريس الفاسي الفهري أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة بفاس جامعة القرويين بالمملكة المغربية.
نواصل معك عزيزي القارئ اليوم الحلقة الثانية من هذا البحث او ورقة العمل التي تحمل عنوان:"السياسة الشرعية وقه المشترك الانساني" ..
* تعريف السياسة في التراث الإسلامي
يقول الباحث: تعرف السياسة في التراث الإسلامي بأنها "استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة"، ووردت بلفظ: ".. في العاجل والآجل" بدل "الدنيا والآخرة".
مبيناً بأن أصل هذه العبارة فيما بلغه جهدي من كتاب غياث الأمم لإمام الحرمين فقد عبر بلفظين متقاربين عن الوظيفة السياسية: أحدهما: قوله:".. انتصاب أسباب الصلاح العام العائد إلى الإسلام .."، والثاني: قوله: ".. استصلاح الخلق .."، وأما الأصل الذي استوفى هذه العبارة، ومنه مأخذها من غير ريب فهو الغزالي، حيث تعرض للسياسة عند بيان الشواهد العقلية على فضيلة العلم. ومما ذكره في الموضوع أن "مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز و جل لمن اتخذها آلة ومنزلا لمن يتخذها مستقرا ووطنا وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين"، وذكر في جملة أعمال الآدميين السياسة فبيّن أولا غايتها بقوله:"والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها"، ثم فصّل الكلام عن السياسة بقوله: ".. وأشرف هذه الصناعات أصولها، وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح ولذلك تستدعى هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات. ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع.
وقال: والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب: ..".
موضحا أن فائدة وقوفنا على أصل هذه العبارة أننا نلفي الغزالي قد عطف "الإرشاد على الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة" على عبارة "استصلاح الخلق"، والذين نقلوها عنه تصرفوا في العبارة فربطوا بين جزءيها بالباء على اعتبار سببيتها. بما يعني أن استصلاح الخلق في السياسة لا يكون إلا بالإرشاد إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة.
وقال: وأما سبب عطف الغزالي لوظيفة الإرشاد على وظيفة استصلاح الخلق فهو أنه جعلها على أربع مراتب: فالأولى سياسة الأنبياء، والثانية سياسة الخلفاء والملوك والسلاطين، والثالثة سياسة العلماء بالله عز وجل وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء، والرابعة سياسة الوعاظ، ولا يمكن استيعاب هذه المراتب الأربع في معنى السياسة من دون إضافة وظيفة الإرشاد.
منوهاً انه وإذا جوزنا لأنفسنا التصرف في عبارة الغزالي باستثمار جميع معطياتها؛ فينبغي أن تكون العبارة كما يلي: "السياسة استصلاح الخلق للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها للسير على الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة".
وقال الباحث: ويأتي بعد تعريف الغزالي تاريخيا تعريف ابن خلدون وقد فرّق أولا بين السياسة المدنية، والسياسة العقلية: فعرّف السياسة المدنية بأنها "هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه"، وقد استبعدها من مجال تحليله، وعرّف السياسة العقلية ـ وسمّاها أيضا بالحكمة السياسية ـ بأنها: "حمل الكافة على مقتضي النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار"، ثم قام بالتفريق بين السياسة العقلية والسياسة الدينية، وذلك عندما ذكر أن النوازع البشرية والاعتبارات المعتادة تؤدي إلى الجور والإجحاف والهرج والقتل، ليصل إلى القول:".. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم.
مبيناً هنا بأنه إذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها:{سنة الله في الذين خلوا من قبل}، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، ثم قام ببيان الجوامع والفروق بين السياسة العقلية، والسياسة المستندة إلى الأحكام الشرعية، فقال:".. ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين:أحدهما: يراعى فيها المصالح على العموم، ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص، وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة .. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها، اما الوجه الثاني: أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً.
واشار الباحث الى ان هذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر، إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم، فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم".
موضحاً بقوله: وقد تعمدت في الفقرات السابقة أن آتي بكلام ابن خلدون على الترتيب الذي أورده به ليعلم أصل كل شيء من تحليل أقواله. وهو ما ألخصه في أربع نقاط: الهدف، والمصدر، والموضوع، والعناصر، وقد احتفظت في محتوى كل نقطة على ألفاظ ابن خلدون:
أولا: الهدف من "القوانين السياسة" بحسب ابن خلدون واحد تشترك فيه السياسة العقلية والدينية بناء على "السنن الكونية" التي جعلها الله تعالى. فإن غاية هذه القوانين درء الفساد الحاصل من "الجور والإجحاف" و"الهرج والقتل". وجلب المصالح المقصودة من "استتباب أمر الدولة، وتمام استيلائها".
ثانيا: المصدر: ميّز ابن خلدون بين السياسة العقلية والسياسة الدينية باعتبار المصدر، فمصدر الأولى "العقلاء وأكابر الدولة وبصراؤها"، ومصدر الثانية "الله تعالى بشارع يقررها ويشرعها".
ثالثا:الموضوع: ميّز ابن خلدون بين السياسة العقلية والدينية باعتبار الموضوع:
فالسياسة العقلية "تكون على وجهين: أحدهما: يراعى فيها المصالح على العموم،ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص (...)، والوجه الثاني: أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً".
مبيناً ان السياسة الدينية لا تشارك السياسة العقلية في الوجه الأول "لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها". وتشاركها في الوجه الثاني؛ ولكن "ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم".
ورابعا: العناصر التي تتكون منها القوانين السياسية على العموم "مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم".
وقال الباحث: وإذا رمنا المقارنة بين تعريف الغزالي وابن خلدون للسياسة نجد أنهما معا يستحضران الشريعة الإسلامية ويصدران عنها في مفهوم السياسة عندهما أنهما معا يستحضران أصل المصالح بضوابطها الشرعية أصلا للسياسة، وأنهما يشتركان في الغايات المقصودة من السياسة التي نوه بها كل واحد منهما وإن اختلف تعبيرهما عن ذلك.
مشيرا الى إن ابن خلدون زاد على الغزالي بمجموعة من التفصيلات. والتفصيلات التي زاد بها على نوعين: فمنها ما يرجع إلى بحوثه التاريخية مثل قوله: بأن "ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم"، ومنها ما يرجع إلى معلوماته الموسوعية مثل قوله في عناصر القوانين السياسية، وأساس استبعاده السياسة المدنية من موضوعه، ومنها ما يرجع بحوثه النظرية: وهي واضحة فيما ذكره من الفوارق والجوامع بين السياسة العقلية والدينية، ومنها اعتباره القوانين السياسية جارية على القوانين الكونية استمدادا من قول الله تعالى:{سنة الله في الذين خلوا من قبل ..}،ومنها تأصيله لوجه الجمع في القوانين السياسية بين السياسة العقلية والدينية حيث قال: "والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في آدابهم، والملوك في سيرهم".
فقد جمع بين ثلاثة من المصادر، وميز بين الشرع وبين غيره عندما جعل الشرع مقدما على غيره. وجمع بعد الشرع بين الاستفادة من الفلسفات والنظريات والمذاهب السياسية التي عزاها للحكماء، وبين الأفكار والتجارب والنظم السياسية التي نسبها لسير الملوك، يعني الممارسين للسياسة من مختلف الأعصار.
* أصل المصالح وروابطه بالمشترك الإنساني
وذكر الباحث حول أصل المصالح بقوله: مر معنا أن تعريف السياسة لغة هو "القِيام على الشْيءِ بما يُصْلِحُه"، ومر معنا أن هذا التعريف مرتبط تعريفها اصطلاحا لا يبعد عن ذلك كثيرا كما تؤدي ذلك عبارة من نقلنا عنه من كونها "استصلاح الخلق" كما في عبارة كل من الجويني والغزالي. ورأينا أن ذلك منسوب إلى الشريعة على العموم قال ابن خلدون "لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها (يعني السياسة العقلية) في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها"، فإضافة الاستصلاح إلى "الخلق" جميعا، واندراج أحكام الملك في الأحكام الشرعية باعتبار إغنائها عنه، مؤذن بأن إطلاق المصالح ليس خاصا بأهل ديانة دون أخرى، وهذا المعنى يتأسس انطلاقاً من القرآن العظيم الذي يتوجه إلى الناس جميعاً كما يتوجه للمؤمنين خصوصاً: فقد توجه الخطاب في القرآن للمؤمنين بصيغةٍ موحدةٍ هي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا}، وجاء الخطاب بذلك تسعاً وثمانين مرة. وجاء الخطاب للإنسان عموماً بصيغٍ مختلفة: فقد جاء الخطاب بقوله تعالى {يا أيها الناس} عشرين مرة، وجاء الخطاب بقوله تعالى: {يا بني آدم} خمس مرات، وجاء الخطاب بقوله تعالى {يا أيها الإنسان} مرتين، وجاء الخطاب لنوع من الناس من غير المؤمنين بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} اثنا عشر مرة. وهلم جراً مما لا نستطيع الاستفاضة هنا في ذكره، ولا في تفصيل وجوهه. ولكن ذلك كله منصوصٌ في كتاب الله تعالى، بما لا يدع مجالاً للشك في أن شريعة الإسلام تخاطب المؤمنين في المقام الأول وتخاطب غير المؤمنين كذلك.
وقال: ولكن من الضروري أن نميز في خطاب الشريعة الإسلامية بين خطاب التكليف وخطاب التعريف، ولهذا فإن الدلالة على المصالح الشرعية خوطب بها المؤمنون خاصة، قال العز بن عبد السلام: "والشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول {يا أيها الذين آمنوا} فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثُّك عليه، أو شراً يزجُرك عنه، أو جمعاً بين الحثِّ والزجر. وقد أبان الله ما في بعض الأحكام من المفاسد حثّاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثّاً على إتيان المصالح".
وهو المعنى المقرر في مقاصد الشريعة الإسلامية حيث يبين المصنفون في موضوعها كلما ذكروها بأن هذه الضروريات الخمس التي تنبني عليها مقاصد التشريع الإسلامي قد أمرت بالمحافظة عليها جميع الشرائع. قال الإمام الشاطبي: ‘‘ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة". وقال صاحب شرح التحرير: "حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء"، وهذا الملحظ قريب مما ينسب لفريديريك دي ما تنز، والذي صُدِّر به بروتوكولا القانون الدولي الإنساني واتفاقية 1980، ونصه: "يظل المدنيون والمقاتلون في الحالات التي لا ينص عليها في الاتفاقيات تحت حماية وسلطان قانون الشعوب كما استقر بها العرف ومبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام"، وحيث تقرر هذا فأريد أن أبين أصلاً هاماً في هذا الموضوع وهو فرق دقيق بين التصور الإسلامي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وقال: وينبني هذا الفرق على المقارنة بين ما يسمى في الإعلان العالمي بالحقوق الأساسية، وما يسمى في الشريعة الإسلامية بحفظ الضروريات الخمس كما بيناها أعلاه، حيث يبدو هذان المفهومان في الوهلة الأولى كالمترادفين. ولكن بينهما عدداً من الفروق التي لا يستهان بواحد منها فكيف بمجموعها.
مبيناً انه من مقتضى الضروريات في التشريع الإسلامي:أنها فرض عين على كل فرد، وأن الواجب على الآخرين أفراداً ومجتمعاً ودولةً تأمينُها لكل فرد، وأنها محاطة بعقوبات شديدة تمنع من سلب شيء منها سواء بالنسبة للشخص في حد ذاته أو بالنسبة لغيره، وأنها لا يجوز إسقاطها ولو بإرادة المعنيِّ بالأمر حيث يكون مسؤولاً عن الإخلال بها في نفسه كمسؤوليته عن الإخلال بها في حق غيره، وكذلك فإن حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال هي حقوق لله تعالى حَجَرَ على العبد فيما يؤدي إلى الإخلال بشئ منها.
وقد حاول الدكتور أحمد أبو الوفا جاهداً أن يربط هذا المبدأ المتعارف عليه في الشريعة الإسلامية بحقوق الإنسان كما نصت عليها الإعلانات الدولية الحديثة، أي مبدأ عدم جواز إسقاط الحقوق الأساسية للإنسان ولو بإرادة صاحب الحق، فكان عموم ما حصَّله نصوص ضعيفةُ الجدوى ضعيفةُ الأثر تتعلق ببعض الجزئيات؛ بل إنه قد أتى هو نفسه في ختام كلامه بما يدل على عدم اعتبار هذا المبدأ في بعض النصوص.
* التمييز بين المنصوصات الثوابت وبين غير المنصوصات المتغيرات
وقال الباحث: إن البناء على أصل المصالح في الشريعة الإسلامية بالنسبة للممارسة السياسية عموما يقتضي تفصيلا يتحدد من خلاله أهم ضوابط هذا الأصل، فإن من المعلوم في أصل المصلحة المرسلة عند الأصوليين أن لا يوجد في نصوص الشريعة ما يشهد لها بالاعتبار ولا بالإلغاء.
وقد حرر ابن خلدون هذا التمييز فيما يتعلق بالقوانين السياسية بقوله: "لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع متصرف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضي رعايته لمصالحهم في العمران البشري. وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك، لئلا يفسد إن أهملت، وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح، نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح. فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها. وقد ينفرد إذا كان في غير الملة"، وليس تصرف صاحب الشرع في الأمرين وجمعه بين الوظيفتين براجع إلى أصل واحد فإن علماء الشريعة الإسلامية يفرقون بين ما يدخل في مقتضيات تصْريف الحكم الفقهي إفتاءً وقضاءً، وبين ما يدخل في مقتضيات تصرُّف السياسة الشرعية إمامةً وقيادةً.
ولم يبحثوا الفرق بين الأمرين إلا عن وعي بما يشتركان فيه، وهو النسبة إلى الشريعة في كل منهما. ومقتضى نسبة كل من الفقه والسياسة إلى الشريعة الإسلامية هو الاستناد إلى نصوصها والانبناء على مقرراتها:
أما المنصوص عليه في كل منهما فهو على حسب المنصوص فيه ومبلغ الاجتهاد في موضوعه منهجيا هو تقرير دلالته بحسب النص، وتنزيل أحكامه بحسب الواقع، وأما غير المنصوص فيتشعب وجه الاجتهاد فيه، وذلك أنه يختلف التناول منهجيا بين ما هو موضوع للفتوى، وما هو معروض على القضاء، وما هو من تصرفات الإمام.
وفال: وقد كتب الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) رسالة خاصة في هذا الشأن بعنوان: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام".
مؤكدا انه من المعلوم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فضلا عن كونه نبياً رسولاً، كان إماماً قائداً، وقاضياً حاكماً، ولذلك فإنه ينبغي التمييز بين تصرفاته على اعتبار تعدد صفاته. قال القرافي: "فاعلم أن تصرفه عليه السلام ينقسم أربعة أقسام:قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة، مثل إقامة الحدود، وإرسال الجيوش .. ونحوها، وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء، كإلزام أداء الديون، وتسليم السلع، ونقد الأثمان، وفسخ الأنكحة .. ونحو ذلك، وقسم اتفق العلماء أنه تصرف بالفتيا، كإبلاغ الصلاة وإقامتها، وإقامة المناسك .. ونحوها، وقسم وقع منه عليه السلام متردداً بين هذه الأقسام اختلف العلماء فيه على أنحاء، وفيه مسائل..".

.. للحديث بقية الاسبوع القادم