[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
ما فتئ المرء يشعر بحنكة وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، فهو، بالرغم من حفاظه على المعلن من الخطوط العامة للسياسة الخارجية الأميركية، يضع حكومات دول الشرق الأوسط اليوم في مأزق "اللغزية"، بدليل أن أولي الأمر في حكومات هذا الإقليم، يعانون اللحظة من محاولة فك ألغاز السياسة الأميركية اليوم في الشرق الأوسط عامة. هم يستشعرون ثمة فجوة متسعة بين الظاهر والباطن في السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط. والحق أقول، فإن هذا الأمر ليس بغريب على رجل سبق أن رشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة، بمعنى أنه يكمن على رؤيا خاصة به في السياسة الخارجية.
لست أبالغ إن افترضت بأن "الملاسنة" الجارية اليوم بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية إنما هي خير دليل على شعو الإسرائيليين بوجود طبقتين، خارجية مرئية، وباطنية دفينة، في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. يشك "نتنياهو" منذ بداية الأمر بصدقية تأييد باراك أوباما لإسرائيل، ذلك أن الأخير يتبع سياسة قابلة لنوعين من التفسير: هو يختلف عن جميع الرؤساء السابقين في أنه لا يعلن، بصراحة تأييده "المطلق" لإسرائيل واستعداده لدخول الحرب من أجل بقائها، كما اعتاد العديد من الرؤساء الأميركان أن يعلنوا ذلك، كإشارة تطمين لإسرائيل وكإشارة تحذير للعرب المحيطين بها. وهي إشارة يمكن تمثيلها بالقول إن الخطر الذي يهدد إسرائيل هو خطر يهدد الولايات المتحدة في الوقت ذاته. بيد أن أوباما لا يسير بدقة على هذا الخط الذي اتبعه أغلب الرؤساء الأميركان من فورد حتى بوش الابن، ربما باستثناء ريتشارد نيكسون الذي ما زالت قصة سقوطه المدوي، بسبب "ووتر جيت"، أحجية يصعب حلها أو تفكيكها. هذا بدقة هو ما يقلق الإسرائيليين، درجة أنهم أعلنوا تمردهم على الخطوط العريضة لخطة التسوية المباركة من قبل الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية.
أما الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لإسرائيل وحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، فيتجسد في أن هذه "اللغزية" تبقى مزمنة ما دامت السياسة الأميركية تعلن تأييد إسرائيل، حليفًا، من ناحية، وتواصل المباحثات مع الجمهورية الإسلامية، عدوًّا قابلًا للحوار أو للتفاهم، من ناحية ثانية.
وإذا كانت إسرائيل، برغم الشد والجذب الجاريين الآن، مطمئنة على مستقبل علاقاتها "العضوية" بالولايات المتحدة، فإن الأكثر قلقًا هم العرب، بكل تأكيد: فثمة تغيرات جذرية تجري اليوم عبر إقليمهم، تغيرات توحي بأن واشنطن "عاجزة" عن التدخل، أو "موافقة" ضمنيًّا عليها. والأخطر هو أن هذه التغيرات لا تعد بالمحدود من النتائج والتفاعلات المتوالية، بل هي تغيرات تعد بتفاعلات تسلسلية لها بداية ولكن ليس لها نهاية مرئية أو ممكن التكهن بها.
من الناحية العملية الواضحة للمراقب الفطن، قدمت كل من واشنطن ولندن موافقتهما، رسميًّا، على تأسيس دولة كردية، دولة ستنفصل عن كيان سياسي قارب عمره المئة سنة، العراق. وهي دولة تعد بتهديد الوحدة الإقليمية لتركيا وإيران وسوريا في آن واحد. وبعكسه، ما معنى تجاوز واشنطن ولندن حكومة بغداد واعتمادهما حكومة أربيل (مركز إقليم كردستان العراق)؟ ثم ما معنى تسليح الأخيرة ونقل قواتها (البشمرجة) إلى سوريا عبر تركيا؟ أليس هذا تحالفًا غربيًّا مع دولة كردية، مفترضة على أقل تقدير، دولة في مخاض الولادة؟ والأغرب من هذا كله، هو أن بغداد تراقب كل ما يجري بكردستان العراق بصمت من نمط "صمت الحملان"، فهي واقعة بين المطرقة والسندان: تريد توقيف زحف "الدولة الإسلامية" نحو بغداد، من ناحية، ولا تريد تقوية الكرد درجة الاستقواء عليها، من ناحية ثانية.
لنلاحظ أن عملية إضافة دولة جديدة لنظام شرق أوسطي إقليمي جاوز عمره المئة سنة ينطوي على سلسلة من التصدعات وأنواع من التآكل الذي لا يعد بالخير للأنظمة التقليدية عبر الإقليم، خاصة تلك الصديقة لواشنطن. إن ما جرى ويجري من تفاعلات ومخاضات في اليمن وفيما يسمى بــ"كردستان الغربية" (شمال سوريا) وعبر شمال إفريقيا، من سيناء حتى المغرب، عبر تونس وليبيا يؤكد ما يتراءى للمرء من نذر تغير جذري سيتناول، قبل كل شيء، توزيع الثروات الطبيعية ومواردها عبر أغنى الأقاليم النفطية في العالم. علمًا، أنه لن تكون الأمور يسيرة الليّ بين شعوب لا تلتوي، ذلك أن إعادة توزيع الثروات يعني تشكيل مراكز قوى وصناعة قرار جديدة لم نعهدها من قبل.