منذ صدور النظام الأساسي للدولة في السادس من نوفمبر عام 1996 وتتحقق على أرض الواقع كل يوم أهدافه وأبوابه ومواده ليقيم مجتمعًا قائمًا على العدل والشورى والمساواة في حق المشاركة بالشؤون العامة وبسط راية السلام الاجتماعي والأمن والطمأنينة لدى المواطنين حتى يتفرغوا للبناء والتعمير والاستثمار. فكفالة حفظ حقوق الإنسان كاملة وما يعرف في الإسلام بالكليات الخمس (الدين، النفس، العقل، النسل، المال) هي أهم ما يصلح حال الإنسان، حيث جاءت شريعة الإسلام بتشريعات وأحكام وافية تحفظ هذه الكليات/الضرورات الخمس، وانطلاقًا من ذلك جاءت مواد النظام الأساسي للدولة، حيث المبادئ الموجهة لسياسة البلاد والتي تضمنها النظام تشمل كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما يشمل الباب الثالث منه منظومة الحقوق والواجبات العامة التي تؤكد إلى أي مدى بلغت معدلات الرشد السياسي في السلطنة وتحديد معالم المسؤولية وحدود الالتزام والاختصاص بين المواطن والدولة، وبينه وبين مجتمعه.
كل ذلك الإنجاز العظيم هو من نتاج الفكر الثاقب والرؤية الواضحة لكيفية إقامة المجتمع المتحضر لدى باني الوطن المفدى وقائد مسيرتنا المظفرة جلالة السلطان المعظم ـ أعزه الله وأيده بنصره ـ حتى تظل عُماننا الحبيبة على الدوام منارة عدل وموئل ازدهار ومبعثًا على الزهو والفخار.
إن القراءة المتأنية للنظام الأساسي للدولة تجعل المرء يكتشف فيه إعلانًا واضحًا لكفالة حقوق الإنسان وإطلاق حريته في الاختيار سواء اختيار المهنة التي يعمل بها أو المكان الذي يقيم فيه أو النائب الذي ينوب عنه في إيصال رأيه إلى المؤسسات الشوروية والتنفيذية. وحين يؤكد هذا النظام (الحقوقي) أهدافه ومراميه في إرساء دعائم السلام والأمن والعدالة والتعاون بين مختلف الشعوب والدول إنما هو بذلك يؤكد على مبدأ حرية الاختيار وصيانة الحقوق الأساسية للبشر من عمانيين وغير عمانيين.
وهذه المنظومة الرائعة في توطيد أواصر المحبة والتعايش والاستقرار وحفظ الحقوق وكفالتها لم تقف عند كتابتها نصوصًا ثابتة، كما لم تكن كتابتها سابقة على ممارستها، بل إن الممارسة كانت سابقة على توثيق هذه الحقوق نصوصًا ثابتة، حيث كانت المبادرة العمانية لكفالة حقوق الإنسان في شقها العملي واضحة وممارسة على أرض الواقع بالفعل، إلى أن جاء المرسوم السامي رقم (124/2008) ليحدد إطارًا جديدًا يكفل من خلاله للإنسان على أرض السلطنة مجالًا جديدًا وأداةً واضحةً للعمل من أجل تكريس الشعور بمشروعية هذا الحق والقنوات التي من خلالها يمكن لطالب الحق الإنساني أن يطالب به ألا وهي اللجنة العمانية لحقوق الإنسان لتتبع مجلس الدولة ويكون لها الشخصية الاعتبارية وتتمتع بالاستقلال في ممارسة مهامها كما كفلها المرسوم السامي، والتي منذ رؤيتها النور تعمل وفق مقتضيات التوجه والثقة، مثبتة بما تقوم به من أدوار أن إشهارها ليس للدعاية السياسية، وإنما نابع من صميم السياسة العمانية التي وضعت نهجها الحكيم النهضة المباركة.
وتأتي الندوة الفكرية والحوارية حول "حق الإنسان في محاكمة قانونية" والتي نظمتها اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بقاعة المحاضرات بالمعهد العالي للقضاء بنزوى أمس الأول تأكيدًا على دورها، وبمساهمتها في إرساء أسس العدالة والاستقرار والمساواة والتسامح والتعايش وحفظ الحقوق جميعها، حيث تهدف الندوة إلى التعريف بحقوق الإنسان من مرحلة الضبطية القضائية إلى مرحلة صدور الحكم والتنفيذ العقابي ومد جسور التعاون بين اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان والمعهد العالي للقضاء ونشر وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان بين المؤسسات المختلفة بالسلطنة وبناء جسور الحوار والتعاون بين مختلف شرائح المجتمع .
وما من شك أن اللجنة من خلال دورها وندواتها التي تنظمها كما هو حال هذه الندوة يعد وجودها من الأهمية بمكان لكونها تقوم بمساندة أي مواطن في معرفة حدود حقوقه وواجباته وحماية مكتسباته في حالة التصادم مع رغبات مؤسسات أخرى قد تتقاطع مع الحرية الأساسية للفرد في ممارسة حياته على اختلاف مستوياتها دون إضرار بالآخرين أو إخلال بالنظام العام أو مساس بالمصالح العليا للوطن، وكلها ضوابط تنهض لحماية حرية الآخرين من تجاوزات حرية الفرد في إطار من المسؤولية العامة التي تنهض بها الدولة للحفاظ على الشأن العام من التحول إلى شأن خاص يخضع لمزاج فرد أو لظروفه المحيطة به والتي قد لا تكون على مستوى من الشعور الكامل بالمسؤولية العامة.