منذ الوهلة الأولى لعرض مسرحية "عربانة" للمؤلف حامد المالكي والمخرج عماد محمد ، استطاع أن ينقلنا إلى واقع الإعلام المعاصر المزري الذي أصبح يحابي ويضخم الأخبار، بل ويقدم صورة مغايرة للواقع، من خلال قصة مواطن بسيط يدعى "حنون" ، الذي لا يمتلك غير "العربانة" ، فهي مصدر رزقه اليومي، وهو مهووس بمتابعة القنوات الإخبارية التي جعلته يعيش ليل نهار ، مفارقات ساخرة بدءا بحلمه بالعيش الكريم وانتهاء بعلاقته مع زوجته . ثم تدور عجلة الزمن سريعا لتحدثنا عن ذكريات ومحطات حدثت في حياته سابقا .
وعبر لوحات متتالية، أصر هذا العرض نقل "الحدث السياسي" الذي تعيشه العراق منذ سنوات، وبذلك يجد المشاهد نفسه أمام لوحات متتابعة تستعرض حياة حنون ذلك الرجل الفقير الذي يجر العربة، ثم ننتقل معه إلى مرحلة ما بعد تخرجه من الجامعة ، وإجباره على الالتحاق بالجيش، فحنون شخصية مواطن من رعاع القوم لا يمتلك حقا حتى حق تقرير مصيره! ، فقد وجد نفسه مجبرا على خوض الحرب، ثم انتهكت حقوقه تحت شعارات الديمقراطية الجوفاء التي باتت تحاصره.
ولقد ساهمت التقنية في توصيف المواقف المسرحية التي يستند المخرج عماد محمد عليها؛ مثل : استخدام الشاشات السينمائية أو التليفزيونية، والتي يمكن تصور بطل العرض وهو يسحب عربانته في حي شعبي، إلا أنه قضيته هي قضية المواطن العربي الذي يخضع للأنظمة الحكومية التي على الأغلب لا تنصفه، لذا جمع العرض بينه وبين التونسي بن عزيزي، الذي يعتبر أول من أشعل فتيل ثورات العربية.
ولقد اشتهر المخرج العراقي عماد محمد بشغفه في توظيف التقنية في مسرحياته، فقد تابعنا له مسرحية (تحت الصفر) ، ومسرحية (الفيس بوك) ، موظفا الشاشة السينمائية في العرض المسرحي ، ويعتبر استخدام الشاشة سواء تلك المرتبطة بالحاسوب أو بالشاشة السينمائية إضافة تقنية للعرض. ولقد فازت مسرحيته (تحت الصفر) على مستوى (السينوغرافيا) في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة عام 2008،. وبذلك فهو يمثل جيلا من الرواد الذين أثروا المسرح العربي الحديث بشكل عام، والمسرح العراقي الحديث بشكل خاص، فعروضه مفعمة بلغة الحداثة المتفاعلة مع التقنيات الحديثة، والتي تسعى إلى خلق التفاعل الحي مع الجماهير .
ويمكن اعتبار ما وصلت إليه عروض عماد محمد وغيره من المخرجين العرب الحداثيين، ما هو إلا نتيجة فعلية لتأثره بثورة الاتصالات الحديثة والانترنت والفضائيات المعاصرة، فجيل اليوم أصبح يهفو نحو التقنية ، لذا أصبح تحديث المسرح شكلا ومضمونا ضرورة ملحة في ظل المتغيرات التي يعيشها العالم ، طبعا مع ضرورة أن تعبر العروض عن قضاياه الحقيقية.
هناك كم من المواقف الإنسانية والسياسية التي حرص العرض على سردها للتعبير عن شخصية حنون وقدرهم السياسي، كما أن هناك لوحات أخرى صورت التناقض حول شعارات الديمقراطية ورغيف الخبز المرتبط بواقعهم الصعب .والذي كسر حدة تلك المواقف ، توظيف شاشات الحوسبة التي وضعت على جانبي المتفرجين الأيمن والأيسر وكانت تظهر عليها ملفات حنون 1.2.3
إضافة على إصرار المخرج على فتح العرض على الصالة وجذب انتباه المشاهدين من جميع الاتجاهات ، عن طريق كسر الجدار الرابع ، خاصة عندما تسللت المرأة المكبلة بالسلاسل (الأزمة الاقتصادية والسياسية)، والتي كانت تمشي بثوبها الأسود (العباءة ) وسط الجماهير معلقة على الاحداث الآنية.
إضافة إلى توظيف الموروث الشعبي في طقس التعزية مع الاستدلال بصور العوز والفقر التي تسرد فصول حياة شخصيات العرض في تواتر ملحمي أمام الجمهور ، حيث ضجت كل لوحة بمشهد مؤلم، وبدت الملحمية واضحة أولا عن طريق سرد تفاصيل الحياة ومواقفها والتعليق عليها على غرار الراوي في المسرح الملحمي.
بالنسبة للأداء التمثيلي فقد برزت الشخصية الرئيسية (حنون) كشخصية قياديه للعمل كاملا، فيما كانت الشخصيات الأخرى مكملة لها، وقد كشفت المسرحية عن حنون، وهي شخصية تبدو للوهلة الأولى متواضعة، ولكنها سرعان ما بدأت في التكشف، لتسرد عالمها الخاص، فنجدها تحكي سيرة بطلها (دافع العربانه – الحمال) الذي أداه الفنان (عزيز خيون) والتي حملت كما من الآلام والآهات والمواقف الساخرة ، معبرة عن مدى المعاناة الإنسانية الكبيرة، فيما تفرد الفضاء المسرحي بوجود عربة الحمال الذي أصبح بطلا شعبيا يستحق ان ينحت له تمثال بدلا من التماثيل المنتشرة لأناس لا يستحقونها، خاصة وهو يمثل الشريحة العظمى من المجتمع العراقي، كونه يعيش حياة مضنية، كما ان ماضيه القاسي في الخدمة العسكرية بات يطارده ، بعد أن أجبر على الخدمة العسكرية قسرا.
ومن جانب آخر فقد ساندته الشخصيات الأخرى، مثل زوجته التي كانت تشاركه همه حينا ، و تشاكسه أحيانا أخرى....كما جسد الفنان يحيى إبراهيم شخصية (بو عزيز) الذي أحرق نفسه تعبيرا عن الظلم الاقتصادي والاجتماعي في بلده .
وتكمن جمالية الفضاء المسرحي في هذا العرض في تجريده من النوافل، لذا فهو لم تضمن سوى العربانة ، وبعض قطع الإكسسوارات والأزياء البسيطة التي كان يرتديها حنون ، وهو تقمص عدد من الشخصيات: (حامل العربة، الطالب، والجندي ، والرجل البسيط ....) ،هكذا استطاع عرض مسرحية (العربانة) التعبير عن هموم البسطاء، وحقن المشاهدين بكم من الشحنات المؤثرة إزاء واقعهم السياسي الذي أصبح لا يغني ولا يسمن من جوع!

عزة القصابية